لبنان والمحاور الإقليمية والدولية (من سلسلة الابعاد الدولية لانهيار لبنان)

 

بقلم د. غسان الخالد

لم تكن مئوية لبنان، كغيرها من الدول القطرية التي نشأت بفعل اتفاقية سايكس بيكو، كسوريا وفلسطين المحتلة والعراق، والأردن، مع العلم ان بعض هذه الدول قد نشأ بتداعيات سايكس بيكو. ان استثنينا الأردن مؤقتاً، فإن العراق وسوريا قد عاشا حرباً عليهما، واحتلالا لارضهما من قوى عظمى بفعل السياسة الدولية الكبرى ومصالحها.
لكن ما حصل في لبنان، منذ تشرين ٢٠١٩،وحتى الآن، مضافاً إليه تداعيات اغتيال الرئيس رفيق الحريري، جعلت لبنان منقسما إلى فريقين سياسيين، ويزداد الشرخ بينهما في كل لحظة، إلى حد اننا بتنا نرى إسقاطا لكل ما يجري على الساحة الدولية في لبنان. وهكذا دخل لبنان في سياسة المحاور التي كان لا بد منها، لأن هذا اللبنان لا يمكن أن يكون بمنأى عن ما يجري حوله في دول الإقليم، رغم أن محاولات عديدة جرت لتجنب مثل هذا التأثير، لكن هذه المحاولات جميعها قد باءت بالفشل، وهو أمر طبيعي جدا.
لعل أخطر ما واجه لبنان وجودي هو اقتراب احداث ما يجري في سوريا من الحدود اللبنانية، وانا اقصد طبعا هنا الفصائل المسلحة التكفيرية اي داعش وأخواتها. وقد قاربت هذه الجماعات الجغرافيا اللبنانية من منطقتي البقاع والشمال، الشمال بشكل عام الذي شكل دعما رافدا لالتحاق شباب منه ومن غيره من الدول عبر عكار، حيث خضعت قلعة الحصن في الجانب السوري لسيطرة هذه الفصائل المسلحة.كان للمعارك عرسال و معارك ما سمي من وجهة نظر حزب الله، تحرير القصير وريفها، واستعادة قلعة الحصن لاحقا، الأثر الكبير في دخول حزب الله في بعده الإقليمي على الساحة وبقوة. ولفهم عوامل تدخل حزب الله في المعركة رسميا، لا بد من فهم جغرافيا القصير وريفها واتصالها بالأراضي اللبنانية لجهتي البقاع وعكار، إضافة إلى فهم البنية الاجتماعية لها، حيث آلاف اللبنانيين يقطنون في هذه المنطقة الجغرافية.
٢-صفقة القرن.
العامل الثاني الذي شكل خطراً وجوديا على لبنان هو صفقة القرن. هذه الصفقة التي تقضي بالاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، كانت تفترض تقسيم دول المشرق العربي إلى دويلات طائفية متقاتلة ومتصارعة، وتبقى الدولة العبرية في هذا الشرق الأوسط الجديد هي القوة العظمى، التي تعتمد على صناعتها العسكرية بالدرجة الأولى، كما على الدعم الأميركي والدولي من جهة ثانية.
تقوم فكرة الشرق الأوسط الجديد كما وصفه شمعون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي، على مزاوجة العقل اليهودي ورأس المال العربي. هذه النظرة العنصرية لا تغادر الفكر اليهودي مطلقا. فهم الذين يعتبرون أنفسهم دوما شعب الله المختار. ونتيجة للحروب التي خاضتها اسرائيل مع العرب كرست نفسها في ذهنية الأنظمة العربية الحاكمة وكأنها قدر محتوم لا مفر منه. ولذلك ولاسباب أخرى وافقت الدول العربية الخليجية على التطبيع مع الكيان الصهيوني، وكذلك دول عربية مغربية، علما أن التطبيع على مستوى الأنظمة قد بدأ منذ اتفاقيات الثلاث، اتفاقية كامب ديفيد، واتفاقية وادي عربة، واتفاقية أوسلو. جميع هذه الاتفاقيات لم تطبق كاملة بنودها من الجانب الإسرائيلي لأسباب عديدة، أهمها فكرة السيطرة والفوقية.
مع انفجار المرفأ في بيروت، تشكل عامل مساعد، بطريقة أو بأخرى على نقل عمليات الاستيراد عبره إلى مرفأ حيفا، وهو ما شكل ولا زال يشكل خطراً وجوديا على الدور الذي قام به لبنان، كصلة وصل ما بين الغرب والشرق، اقله كما قيل لنا في الكتب المدرسية.
طبعا ما حصل نتج عن الصراع الإقليمي بين محورين، المحور الأول هو المحور الغربي، الذي دعم صفقة القرن منذ زيارة جورج بوش الابن، و قصة السيف الفولكورية الخليجية التي جاءت بعيد إعلانه من إسرائيل، أن إسرائيل هي الدولة اليهودية. وبسبب الخلاف الكبير بين السعودية ودول الخليج التي تدور في فلكها، مع إيران، التي دعمت ما يعرف بمحور المقاومة، ازداد الشرخ والخطر الوجودي على لبنان الكيان. بات لبنان في عين عاصفة الصراع بين هذين المحورين بفعل ما تمتع به حزب الله من فائض القوة، ومشاركته الفعالة في الحرب في سوريا، ومنعه إلى جانب دول أخرى كروسيا وإيران من سقوطها.
هكذا بات لبنان يعيش فعليا انقساما حاداً في السياسة، وفي المواقف السياسية. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار مؤتمر جنيف الذي بحث في إيجاد وطن يشكل ملاذاً آمنا لمسيحيي الشرق، كما وأنه إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المواقف السياسية لرجال دين من الدرجة الأولى، وقوى سياسية أخرى، الدعوات إلى الحياد النشط كما أسماه غبطة البطرك، والي التدويل لاحقاً، يتبين لنا أن خطراً ما يحيط بلبنان الكيان وهو خطر وجودي بالطبع. وكذلك يمكن إضافة الدعوات إلى اللامركزية الموسعة، التي نادى بها فريق سياسي، من غير معرفة تفاصيل هذه اللامركزية الموسعة، فهي ليست لا مركزية إدارية، ولا غيرها من المركزيات، خصوصا اذا ما أضفنا رؤية هذا الفريق السياسي من عدم وجود خلاف أيديولوجي مع الكيان، ودعواته المستمرة للمحافظة على المشاركة بالنصف التي لم يعترض عليها أحد في لبنان، ووصل الأمر إلى الوظائف الدنيا، كل ذلك يجعلنا نفكر أكثر من مرة في ما يريده هذا الفريق السياسي، وما يريده رجال الدين في دعواتهم، بلبنان الكيان، وبوجوده.
من المفيد القول إن صفعة قوية قد وجهت إلى صفقة القرن بعيد أحداث غزة وفلسطين، لصفقة القرن. ولعل انتفاضة أراضي عام ١٩٤٨ المحتلة، والتي تعود لأسباب عديدة، كان لها قوة الفعل ذاتها لصواريخ المقاومة الفلسطينية، التي ولأول مرة، فرضت نفسها وبقوة، مراكمة خبرات وقوة عسكرية، استطاعت خلال أحد عشر يوما أن تقول هي كلمتها، وهو ما اعترف به محللون سياسيون إسرائيليون، كما بعض ساستها، ليأتي خطاب السيد حسن نصرالله بمناسبة التحرير ويضع النقط على الحروف كما يقال، ويعلن سقوط صفقة القرن، كما أعلن أن القدس والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية خط أحمر. فتهويدها يعني حربا إقليمية. هذه الحرب في ما لو اندلعت هي التي ستقرر مصير دول الإقليم كلها.
يمكن القول ضمنا أن السيد قد ضمن خطابه بعض المرونة تجاه قيام الدولتين، وهو الحل الذي تبناه العرب، وذلك عندما ترك للفلسطينيين حرية ما يقررون شرط عدم التفريط بالحقوق في ما تعلق بالمقدسات.
٣-حل الدولتين نهاية الصراع.
قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن حل الدولتين قد ينهي صراعاً عمره سبعون سنة. هو كذلك فعلا، لكن الكيان الصهيوني رفض ويرفض دوما هذا الحل، لأن حل قيام الدولتين يعني حكماً نهاية الكيان. لماذا؟.
يرتكز الكيان الصهيوني في نشأته وفي وجوده على ثلاثة علوم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً فيما بينها، هي الطبوغرافيا والجغرافيا والديموغرافيا.
يعني حل الدولتين طبوغرافيا التنازل عن أراض لم يسبق للكيان أن تنازل عنها، لا بل قد ضرب بعرض الحائط كل الاتفاقات حولها ومنها مسألة الاستيطان. ومع حل الدولتين سوف يتنازل عنها، ومع بقاء القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، سوف يخسر الكثير من مقومات وجوده أيديولوجيا، رغم أن كل ادعاءاته حول القدس وحائط المبكي، وكل ما يروجونه حول وجود آثار لم يثبت صحته رغم كل الحفريات التي قاموا بها، وهنا أشير إلى ما كتبه المؤرخ كمال الصليبي في أواخر ثمانينات القرن الماضي، في كتابه المعنون التوراة جاءت من الجزيرة. خسارة الأرض بالنسبة للدولة اليهودية تعني من غير أدنى شك بداية نهاية وجود.
من الناحية الجغرافية يعتبر حل الدولتين أيضاً وأيضاً في غير صالح الكيان الصهيوني، لأن الجغرافيا هنا لا تعني الأرض فقط وهو ما قصدته بعلم الطبوغرافيا، بل تعني الأرض ومواردها الطبيعية. ولمن يرغب في معرفة الموارد الطبيعية يمكنه ملاحظة حدود غزة تجاه البحر، وما تملكه من موارد في الغاز كما كل دول البحر المتوسط، والأكثر من ذلك وجود مناطق سوف تخضع للمحاصصة بين الدولتين باعتبارهما متشاركين في ملكيتها. وسوف يكون هذا العامل عنصر قوة يضاف إلى عناصر القوة التي تمتلكها الدولة الفلسطينية وهو ما سيؤثر سلبا أيضاً على وجود الكيان.
اما من الناحية الديموغرافية فأعتقد أنه من السهل جدا تدارك المعنى الحقيقي ومعرفة المضمون الواقعي عمليا لهذا المفهوم والذي يقوم على العددية السكانية. فمثلا كان عدد سكان غزة في العام ١٩٦٧ حوالى ٢٥٠ الف نسمة، وهي اليوم وخلال أقل من ستين عاما مليون و٣٠٠ الف نسمة رغم كل الحصار… ورغم كل عمليات استيراد العناصر البشرية اليهودية للدولة.
هذا ما تخشاه إسرائيل ولذلك لم تقبل بحل الدولتين ولن تقبل الا مرغمة وبشتى الأحوال فإن قبولها أو عدمه قد أصبح مقيدا بشروط يفرضها محور الممانعة أو محور المقاومة، وبالتالي فإن الكيان الصهيوني ومن الناحية الوجودية بات مسألة نظر. فكيف ينعكس ذلك على لبنان؟.
لعله من المفيد التذكير بأن طبيعة تكوين لبنان، وتوزعه مناطقيا فيه الكثير من التداخل الدينوغرافي الذي لا يسمح، او اقله سيترك آثاراً سلبية في مسألة الحياد والتدويل،بعد أن نسلم جدلا بأن حتى اللامركزية الموسعة قادرة على حل هذه المشكلة المستعصية بفعل هذا التوزع المتنوع، رغم الانقسام في الرؤى السياسية، أضف إلى ذلك أن فائض القوة التي يتمتع بها حزب الله لن يستخدم في الداخل مهما كانت الظروف والأسباب، ومهما كانت الأسباب موجبة كما يفترض البعض. ولذلك وربطا بالوضع الإقليمي وعند تحقق الشروط الموضوعية لإستقرار المنطقة فإن حزب الله سوف يتلبنن أكثر. ولأنه يفكر استراتيجيا فإنه مؤهل أكثر وبفائض القوة التي يملكها إلى ممارسة واقعية سياسية أكثر من ممارسته اياها اليوم. وعليه اقول ان مسألة بقاء الكيان اللبناني أو انهياره هي مسألة مرتبطة بشكل كبير بما يجري في دول الإقليم. وإذا ما تأملنا في المستجدات الإيجابية الكثيرة في دول الإقليم، كالحوار السعودي الإيراني، والسعودي السوري، فإنه يمكننا القول إن صفقة القرن باتت في خبر كان أولاً، وان الشرق الأوسط الجديد الذي عمل عليه وله وبقوة، أيضاً بات وجهة نظر، وربما سيحل َمحله مفهوم غرب آسيا وهو ما تحبذه إيران، وهو ما يعني عودة الحياة إلى خط الحرير المعروف تاريخياً، او احياؤه من جديد، او تنشيطه بالشكل الذي يسمح، خصوصا وأن عناصر أحيائه قد بدأت ملامحها تتسع بفعل الاتفاق الصيني الروسي والاتفاق الصيني الإيراني، وأعتقد أن الأمر سيشمل كل دول المشرق العربي لاحقاً، خصوصاً بعد تطمين السعودية ودول الخليج العربي بشكل عام، وهو ما أيضاً نلاحظه من خلال الدخول الروسي على خط الخليج، ويضاف إلى ذلك تموضع الأردن الجديد، والذي ظهر خلال حرب الأحد عشر يوماً.
باختصار شديد إن الصراع بين محورين سيفضي إلى تقدم محور على آخر، وبالتالي سيفرض شروطا جديدة يرتبط بها لبنان ارتباطاً وثيقاً، وما نراه من نكايات سياسية بين القوى السياسية في لبنان إن هو إلا اللعب في الدقائق الأخيرة من المباراة. فلا التدويل يحل الأزمة، لا بل يعقدها، ولا اللامركزية الموسعة تحلها، بل تعقدها أكثر فأكثر، ومراقبة ما يجري الآن في لبنان من سلوكيات سياسية يدرك أن بعض هذه القوى لا تزال في فريق الأشبال، وسلوكهم أقرب إلى الولدنة السياسية، وهو في الوقت الضائع، لكن هذا الوقت ينبغي التنبه له، والحذر منه حتى لا يكون ثمن المحافظة على الكيان اللبناني باهظا جدا.