كأس دماء بشرية…

 

“أخبار الدنيا”

 

بقلم : د. محمد إقبال حرب*

في سحيق الزمان حيث تشارك الإنسان والحيوان في مواجهة الطبيعة وتقلباتها في رحلة صراع البقاء غير المعلنة. كان كل فرد يبحث عن لقمة تسدُّجوعه، وحيّز آمن لمنامه. كانت الأنثى والرجل كائنين مختلفين، لا يحفل أحدهما بالآخر إلا في مواسم التزاوج استجابة لدعوة هرمونات جنسية تطلقها برامج الحفاظ على النوع في وقت محدد من كل عام.

مع مرور الوقت اكتسبت الأنثى صفة واهبة الحياة” لكيانات صغيرة تنمو بشرًا. وهذا ما جعل الرجل يعجب منهن تارة، ويمقتهن تارة أخرى على قدراتهن في وهب الحياة. غدت الأنثى في نظر الذكر طريدة مقدسة ملفوفة بهالة من غرائب الجمال ولياقة الحركة عوضًا عن منحها حطب الاستمرارية في أتون البقاء. اقترب الذكر من صنّاع الحياة بريبة، كأنما يقترب من إله.مرت قرون عدّة قبل أن يكتشف الرجل والمرأة كليهما معًا أن الأطفال ليسوا هبة الأنثى بل نتيجة علاقة التكاثر الجنسية التي لم تكن قد أفرزت ثمار الحميمية بعد.

مع الوقت بدأ الإنسان يسيطر على غرائزه بعدما استطاع أن يسيطر على قواه بمساعدة بعض الوسائل التي اكتشفها للصيد، مما وفر له بعض من الوقت ليرتاح من وعثاء البحث عن لقمة عيشه. وبعدما سخّر النار لحمايته أمسى ينام وقتًا أطول دون قلق. استفز الفراغ حاسة التفكير فاستخدم عقلًا لم يُدرك وجوده منذ بدء الخليقة إلا للبقاء حيًا. هذا الحال قرّب الكائنين اللذين كانا لفترة طويلة صيادًا وطريدة. أثمر هذا التقارب اكتشاف سر العطايا الأنثوية وثمارها وبنية الرجل التي تضفي الأمن والأمان. لا أحد يعرف من كان مكتشف دفء اللقاء الأول الذي أدى إلى بناء ثقة بين رجل وامرأة اتفقا دون شهود وختم رجل دين على الوفاء والإخلاص. وهكذا بُنيت أول أسرة اتخذت من المرأة ربة منزل ومن الرجل صيادًا وحاميًا. عدوى الأسرة انتشرت بين البشر فباتت الأسر متقاربة تجتمع في حيز واحد تتخذه النسوة ملاذًا من الدخلاء ريثما يعود الرجال بصيد يُشبع أفواهًا تتربص بها عيون تتخذ الغابة ستارًا. وهكذا كانت أول قرية على ضفاف شاردة في بقعة من الهلال الخصيب.

وصل رجل ضخم مع زوجه إلى تلك القرية وأبديا الرغبة في الالتحاق بالقطيع. لكن رجال القرية واجهوه بالرفض والهراوات كونهم لم يروه فيما مضى. لكن الرجل العجوز كان قويًا جدًا فتغلب عليهم. حسده الرجال على قوته البدنية فقرروا قبوله ليكون خط دفاع قوي. الرجل الضخم كان ذا خبرة في الحياة وعاصر بضعة عقود في زمن كان معدل أعمار أهله لا يتجاوز عقدين من الزمن. أبدى الرجل الضخم قوى غريبة فلم يخف من الرياح، ولم يجزع من هسيس النيران أو لهيبها. لم يكن لدى أهل القرية، بل معظم البشر، معرفة كافية لمواجهة الطبيعة وكوارثها. كانوا يخافون الكوارث التي تبعثر حياتهم، وتفقدهم محبيهم. أدركوا بأن هناك قوة عظيمة تصنع الكوارث لسبب ما أسموها غضبًا. عانت القرية، كما البشر المشرذمون من صانع الكوارث الذي يحل غضبه بين الفينة والأخرى مدمرًا ما هو موجود إلى ركام فوق أجداث كانت عمادًا للقرية الأولى على هذا الكوكب. استغل الرجل الضخم معرفته وذكاءه في فرض سيطرته بعد كل كارثة ينجيهم منها أو يقلل من خسائرها قبل حصولها. كانت سبل الوقاية التي فرضها الرجل الضخم بمثابة نبوءات إلهية يمليها عليه من في السماء. فشاع بين الرعاع جلال ورهبة الرجل الضخم فأضحى مهابًا.

مع الوقت بدأ نجم أحد فتيان القرية يبزغ لما يحمله من فكر نيِّر. أخذ البساط ينزاح من تحت أقدام الرجل الضخم رويدًا رويدًا مع انحسار قواه وبدأ نجم الفتى الروحاني بالبزوغ طاغيًا على أفول الـمُهاب الذي كان قد استولى على ثروات القرية غريب قرون الثيران والغزلان وأدوات الصيد المثيرة التي صنعتها أيد ماهرة لم تحفل ببراءة الاختراع. واستباح لنفسه نساء القرية جميعًا تحت جناح صلته بالسماء. أرّق نجم الشاب منام الكهل فلم يدرِ كيف يتخلص منه أو يوقف جماح فكره. وذات يومٍ لمعت فكرة في رأسه تتمثل في بناء بيت شكر لمن في السماء يكون هو سيده الأعلى بوصاية سماوية. وهذا ما سيمكنه من السيطرة على الشاب لفترة تكفي للتخلص منه. عرض الفكرة على الشاب وأغراه بأن هذا المعبد سيغدو برعايته بعدما يرحل، فاستأنس الشاب لمستقبل واعد وبارك ما يقوم به الجليل.

اكتمل البناء واستنبطت الطقوس التي يتوجب على الأفراد اتباعها لدخول هذا المكان المقدس ما كان ليتم إلا بدعوة من ساكن السماء صاحب القوى الغريبة، كما قال الكاهن الضخم ومريده الشاب. وقع الاختيار على يوم صيفي مميز لإتمام مناسك المعبد وتتويج أول كاهن في تاريخ البشرية، الذي اتخذ اسم كاهن بعل. وبينما أهل القرية يتجمعون اتشحت السماء بثوب داكن، راح يزداد دكانة نتيجة اقتراب كسوف الشمس. خاف سكان القرية، وخاف الشاب وهرع إلى كاهنه متسائلًا. الكاهن المخضرم مرّ بهذه التجربة مرارًا قبل ولادة أي من أهل القرية. هزّ الكاهن رأسه بصمت مطبق، بينما راحت نظراته ترصد انزلاق ستارة الظلام على مسرح الكون. ثم صرخ بأعلى صوته: اجمعوا سكان القرية، رجالًا وأطفالًا ونساء. فالإله بعل غاضبٌ جدًا.

اجتمع أهل القرية بسرعة استجابة لكاهن بعل الذي أشاع أن بعل غاضب جدًا من هذه القرية. استمر القمر استحواذه على قرص الشمس حتى أصبح النهار أسود مرعبًا. صرخ الكاهن بالجمع بصوت جهوري مرارًا وتكرارًا: اسجدوا حتى لا تُسقط عليكم السماء نيرانًا تحرقكم.

يصرخ ثانية: صاحب السماء غاضب جدًا… اسجدوا ودعوني أفاوض بعل ليرأف بي وبكم.

يصرخ في حديثه مع سيد السماء: إلا هذا.

يعاود الحديث: خذ غيره. خذني أنا. أعرف أنك تعشق الدماء وتلتذ بدماء البشر. لكن لماذا لا تختار غيره؟

وعندما شعر الكاهن بأن النور سيعود قال بصوت متهدج ودموع لا تنتهي: لبيك، لبيك! لا تدمر القرية، لا تحرقها، سنذبحه قربانًا لك، فأنت لا تحب إلا أزكى الدماء.

صرخ في قومه: الرب يطلب قربانًا، يريدنا أن نذبح أفضل رجل في القرية ليرضى.

خاف الجميع، وتحسس كل برقبته يتحسس حرارة وجودها.

فجأة صرخ بصوت مدوٍ: بعل يريدكم أن تذبحوا هذا الشاب، مشيرًا إلى مساعده. اذبحوه الآن قبل أن يدمر سيدي بعل القرية.
أشار بيده إلى الشاب ثانية وقال: لا تنتظروا، الرب لا يريد سواه لأن روحه أزكى الأرواح.

هجم الرعاع على الشاب، الذي ضاعت كلماته بين صراخ وعويل أهل القرية المؤمنين برب الكاهن وانهالوا عليه ضربًا حتى سقط، فذبحوه. ما أن قُتِل الشاب وجرى نجيعه على الأرض حتى صرخ الكاهن: اسجدوا معي وابتهلوا للإله بعل ليعفوَ عنّا. سجد الكاهن على مذبح المعبد وهو يخاطب الرب: ها هي دماء قربانك اشربها، اشربها إلهي بعل. إذا ما رضيت أعد لنا الشمس حتى تنير قريتنا.

شعر الناس بدفء الشمس وأفرحهم نورها يتسلل إلى حيث يسجدون. وما أن انتهى الكسوف حتى نهض الكاهن مهنئًا شعبه بقبول بعل لهذا القربان. وبدأ عهد جديد من حياة البشرية عنوانه سفك دماء أهل الأرض لإرضاء من في السماء حياة تتخذ دماء البشر قربانًا ليرضى بعل بأرواحٍ يختارها الكاهن من بين المنافسين لسلطانه. توارثت الأجيال حتى يومنا هذا فكرة الإله الذي يعشق الدماء، الإله الذي لا ينام قبل أن يرتشف كأساً من دماء بشرية تطفئ نار كراهية الكهّان.

——————–                                                      

*كاتب وروائي