فلسطين المحتلة، تداعي الهيكل الصهيوني…

 

بقلم العميد مُنذِر الايوبي*

يبدو ان عدوى سقوط الانظمة او اسقاط مقومات بنيانها منذ الربيع العربي لا تزال سارية، رغم مسيرة تطبيع علاقات ممسوخة نُسجت في علن بين تل ابيب وعواصم عربية عدة، كذلك اتفاقيات السلام الابراهيمية (الامارات العربية المتحدة؛ دولة البحرين الخ…) -تسمية باطنها دغدغة خبيثة اذ نسبت الى سيدنا ابراهيم الذي يعد نبيا ورسولا في الديانات السماوية الثلاث الاسلامية، المسيحية واليهودية- كما ان انتشار “اللبننة اساليب الطبقة الحاكمة في لبنان” تواصل تمددها من بغداد الى القدس كما بعض الشمال الافريقي (تونس،؛ ليبيا الخ…) اذ ان مجموعة عوامل مشتركة أٰ سلبية كانت ام ايجابية، جمعت دول الاقليم المؤسسة اصلآ على قواعد متداعية طائفية او مذهبية، ناهيك بهيمنة طبقة اوليغارشية منغمس معظم مكوناتها في مافيا الفساد وتبييض الاموال او تهريبها الخ…
في مؤدى كل ذلك هجرة النخب الثقافية والعلمية، انحسار دولة المؤسسات لتتحول مزارع متصارعة على حصص من المال العام والمشاريع اضافة الى هيمنة على المناصب، انقسام عامودي يشرذم الشعب ويضعف قدراته، وصولآ الى امساكه بأجياله المتتابعة، فرض عين تبعية عبر تقنين مقومات حياته ومعيشته إن لاحت نزعة تحرر او بريق ثورة على الواقع السيء …!
هذه المناخات لم تبتعد كثيرآ عن دولة الكيان الغاصب رغم انكارها وتكبرها، عبر تظهير ديمقراطية هجينة مكبلة ضمنآ بقرارات الدولة العميقة المشتقة من بروتوكولات حكماء صهيون… من هذا المنطلق الاساس يُبنى؛ اذ تشهد معظم مدن الكيان وعلى مدى خمسة اسابيع حتى الآن مظاهرات واحتجاجات فاقت المتوقع في عمق جذورها واضرارها الجانبية، كما في عنفها سواء من قبل المتظاهرين ام من رجال الشرطة الاسرائيلية ووحدات قمع الشغب..!

في الاسباب؛ عنوان “الاصلاحات القضائية”، اذ تسبب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو باندلاع انتفاضة شعبية على خلفية سعيه لادخال تغييرات جذرية على النظام القضائي، جوهرها الحد من سلطات المحكمة العليا الاسرائيلية، (يترأسها حاليآ القاضي آشر غرونيس) هي في صفتها هيئة استئناف عليا وفي صلاحيتها إصدار أحكام “غير قابلة للنقض او المراجعة” بحق السلطتين التشريعية والتنفيذية؛ مع منح نواب الكنيست سلطة أكبر في تعيين القضاة؛ بما يضمن له مستقبلا تجميد او الغاء محاكمته، بالتالي التملص من ارتكاباته والتهم الجنائية الموجهة اليه بالفساد..!
في التداعيات؛ انزعاج وقلق من الحلفاء الغربيين (الولايات المتحدة الاميركية، المانيا وفرنسا…) امام التدحرج الامني والسياسي المتسارع على وهج القنابل المسيلة للدموع والاطارات المشتعلة؛ وفقآ لما يلي:
-اقالة وزير الدفاع يوآف غالانت المنتمي الى حزب ليكود اليميني بعد تصريح مقتضب للاخير قال فيه “ان تعديل النظام القضائي يمثل تهديدآ مباشرا على أمن البلاد، داعيآ الى تجميد الآلية التشريعية”..
-تضاؤل مناعة الحكومة الائتلافية اليمينية المتشددة وبالتالي احتمال انفراط عقدها، نتيجة تفاقم الخلافات بين اعضائها ممثلي احزاب الائتلاف الحاكم..!
-امكانية تنصل حكومة العدو من تبعات القرار 242 عن مجلس الامن الدولي “حل الدولتين” -المتنكرة له اصلآ- ومتابعة خطط (التهجير بالهدم والاستيطان بالبناء) سواءً في القدس الشرقية “عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة” او مدن الضفة الغربية نابلس، الخليل ورام الله..!
-دخول الأحزاب اليهودية المتشددة على خط الازمة ومطالبتها الحكومة إقرار قانون يعفي طائفتهم من الخدمة في الجيش، اذ ان تقليص صلاحيات المحكمة العليا عامل مساعد في الوصول الى مطالبهم..
-انقسام لجهة الثقة بالسلطات القضائية، اذ تتهم المجموعات اليمينية المحكمة العليا بميولها اليسارية وتدخلها في الحياة السياسية، اضافة الى رعاية ومراعاة حقوق الأقليات على حساب المصلحة الوطنية.؛!
-تسلم الحكومة السلطة المطلقة، وبالتالي حيازتها قدرة اضعاف قرارات المحاكم كما تقليص طرق المراجعة او الحد منها، الأمر الذي يعرض الحريات المدنية للخطر مع آثار كارثية على الاقتصاد والاستثمارات الخارجية..
-خسارة اسرائيل “مصداقية نظرية.؟” في علاقاتها مع المحاكم الدولية والخاصة كما المؤسسات الاممية المعنية، على اعتبار هشاشة دستورية لجهة وجود قضاء غير مستقل..!

ميدانيآ؛ حدوث الغير متوقع من خروج على النظام والانتظام العام مع ارتفاع مضطرد في وتيرة العنف والمواجهات اذ سجل التالي: *تعليق الدراسة فى المدارس والجامعات فى معظم المدن الاسرائيلية الرئيسية.. *توقف العمل في مرفأي حيفا واشدود، كذلك الرحلات الجوية والخدمات الارضية في مطار بن غوريون.. *دخول اتحاد نقابات العمال “الهستدروت” على خط الازمة واعلان الاضراب الشامل في جميع المرافق تضامنآ مع مطالب المحتجين.. * توقف المصارف عن تقديم خدماتها واقفال (بنك هيو عليم) فروعه احتجاجا على ممارسات العنف المفرط..
استطرادآ؛ كان لافتآ ايضآ: انضمام مجموعات من جنود وحدات النخبة واجهزة المخابرات الى المتظاهرين. عصيان وتمرد على القوانين العسكرية وعدم الاستجابة لاوامر الاستدعاء من قبل معظم ضباط الاحتياط في سلاح جو العدو، كما عدم حضورهم الى قواعدهم الجوية مع استنكاف عن تنفيذ المهام. محاولة المحتجين المنتمين الى شريحة المعارضة اقتحام منزل رئيس الوزراء بينيامين نتنياهو ومحاصرة مقر البرلمان (الكنيست)، مما ارغم رئيس جهاز الشاباك “رونين بار” النزول والاشراف شخصيآ على تهدأة الشارع

في المعالجات؛ رفض متزمت من اليمين المتشدد ودعم للاصلاحات، ما ادى الى انقسام شعبي بين مؤيد ومعارض، الامر الذي دفع رئيس الكيان “إيزاك هرتسوغ” لطلب وقف الاصلاح القضائي بعد ان اصبح عامل انقسام وتهديد لوحدة الامة.. في حين هدد وزير القضاء “ياريف ليفين” وهو اصلآ مفجر الازمة باستقالته في حال تراجع الحكومة عن الاصلاحات..
وفي تسوية قادها “ارييه درعي” رئيس حزب شاس-الصهيوني الارثوذكسي المتطرف- اعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تأجيل التصديق النهائي على الاصلاحات او التغييرات الى 30 من شهر نيسان المقبل اضافة الى مقررات متعلقة بها كان مطلوبآ من الكنيست الموافقة عليها..!

في سياق متصل؛ قد يكون المرتقب دخول البيت الابيض على خط الازمة، رغم تعليق وزير الخارجية الاميركية انطوني بلينكن حول الاحتجاجات معتبرآ الاصلاحات تتطلب “توافقآ”، مضيفآ ان بلاده لن تنحاز إلى أي طرف مؤكدآ “ان الديمقراطية في إسرائيل نابضة جدا”.. لكن السؤال يبقى حول امكانية ذهاب الافرقاء السياسيين والاحزاب نحو توافق يسمح بالمضي قدما لتلافي تقلقل الهيكل الصهيوني بعد ثبوت حالة الوجود المتقهقر المفتقر قدرة الاستعلام الوقائي لدرء المخاطر عن الامن القومي والسياسي.. مع لحظِ تمدد خطر لطبقة (البريكاريا) Precariat «الشريحة الاجتماعية لمن يعيشون في وضع اجتماعي هش، هم على قناعة الشك وعدم اليقين، كما عدم إئتمان للمعالجات على الصعد الاقتصادية الثقافية والسياسية أو الرعاية الاجتماعية المادية والنفسية لشعب اسرائيل..» على نحو من شأنه أن يدفع الى مزيد من التطرف والشعبوية مع تنامي قناعة بهشاشة الدولة ووهن الكيان..!

أخيرآ؛ مما لا شك فيه حراجة الوضع وخطورته، ‏اذ يعتبر رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت: «إسرائيل في أكبر خطر منذ حرب 1967»، كما ان التسوية ضمن الاطار السياسي متعثرة حتى الآن، سيما بعد صدور بيان عن قادة المعارضة الإسرائيلية يدعو نواب الليكود إلى عدم قبول منصب وزير الدفاع بدلآ عن (غالانت)؛ كما يعتبرون(زعماء المعارضة) نتنياهو تجاوز الخط الأحمر اذ “لا يمكن أن يكون أمننا ورقة في اللعبة السياسية”..
استكمالآ، في ظل متابعة الشارع تحركاته الاحتجاجية رفضآ للتأجيل الخادع مطالبآ باسقاط المقررات الاصلاحية بشكل نهائي؛ باتت الضرورة تحتم لجم الانعكاسات السياسية المحتملة على الحكومة ووحدتها، كما العسكرية المؤثرة لجهوزية الجيش الاسرائيلي، سيما في مرحلة ترتيب الاوراق الاقليمية على المستوى الاول (طهران- الرياض؛ القاهرة- انقرة؛ الخ..)، بالتوازي مع دخول متزن للتنين الصيني بثقله النوعي والاقتصادي على المنطقة..!

بيروت في 29.03.2023‏