فرنسا في أعمق أزمة سياسية.. هل تسقط الجمهورية الخامسة..؟
خاص – “أخبار الدنيا”
بقلم العميد منذر الأيوبي*
لم تكن استقالة رئيس الحكومة الفرنسية الجديد (سباستيان ليكورنو ) Sebastien Lecornu حدثًا عابرًا في الحياة السياسية، بل محطة مفصلية في مسار الجمهورية الخامسة التي تواجه اليوم أعمق أزمة سياسية منذ تأسيسها. اذ جاءت بعد ساعات قليلة من تشكيل حكومته، مُعَريَة النخبة الحاكمة من قدرة بناء توافق برلماني يتيح تمرير أبسط الإصلاحات، في ظل برلمان مُعلّق، ومعارضة متشددة من يمين ويسار، اضافةً إلى شارع أنهكته دوّامة الأزمات النظامية والمعيشية المتكررة.
تاليآ؛ تبدو الأزمة داخلية مركّبة؛ “ليكورنو” حاول تقديم نفسه كرئيس حكومة توافقي بعد سلسلة إخفاقات سياسية أصابت معسكر الرئيس ماكرون، معلنًا أنه لن يستخدم المادة 49.3 لفرض القوانين والمشاريع من فوق البرلمان. لكن سعيه إلى التوافق اصطدم بجدار فولاذي داخل المؤسسة التشريعية، وإنقسامات داخل الفريق الرئاسي نفسه، حيث طفا إلى السطح صراع الطامحين لخلافة ماكرون. ليصبح الجوهر، اقتناع “ليكورنو” ان البلد ليس بحاجة إلى برنامج حكومي، بل قابع في قمقم أزمة نظام بات عاجزًا عن إنتاج أكثرية حاكمة أو مشروع وطني جامع.
من الواضح، ان الرئيس الفرنسي أمام مفترق صعب، إما تشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية تحفظ الاستقرار مؤقتًا، أو الذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة قد تمنح اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان تقدّمًا حاسمًا. فيما خيار “تحالف الضرورة” strange bedfellows بين الوسط وبعض قوى اليمين التقليدي وإن بدا ممكن نظريًا، لكنه يصطدم بجمود سياسي ومزاج شعبي ناقم. هكذا يتحوّل ماكرون من “رئيس مُصلِح” إلى “رئيس ضامن”، يحاول إدارة الانهيار بدل تجاوزه.
من جهة اخرى، يشكل انهيار الحكومة حلقة جديدة في سلسلة الارتباك الأوروبي. ففرنسا عامود الخيمة للاتحاد الأوروبي وصوت التوازن بين واشنطن وموسكو. ومع غيابها الفاعل عن المشهد، تتراجع قدرة القارة العجوز على المبادرة في الملفات الدولية، ما يفتح الباب أمام تمدّد النفوذ الأميركي مجددًا، وإفساح المجال لمزيد من الحضور التركي والروسي والصيني في ساحات المتوسط وأفريقيا.
توازيآ، لا يمكن إغفال الارتدادات على منطقة الشرق الأوسط، لكن الأثر المباشر سيظهر في لبنان، حيث شكّلت فرنسا خلال الأعوام الماضية القناة الأكثر فاعلية في الملفات اللبنانية، من انتخاب الرئيس إلى المساعدات الاقتصادية، مرورًا بترسيم الحدود والقرار 1701. لكن الارتطام السياسي الحالي سيجمّد زخم دوائر الاليزيه في ملفات الجنوب وحصرية السلاح. لتنشط وساطات بديلة تقودها قطر ومصر برعاية أميركية، بينما ستستفيد إيران وحلفاؤها من الفراغ الأوروبي لتوسيع هامش المناورة.
في المرآة اللبنانية الفرنسية المفارقة إلتقاء مشهدين على نظام سياسي مأزوم، طبقة عاجزة عن تجديد شرعيتها، ومجتمع يبحث عن عقد وطني جديد. لكن الفارق أن فرنسا ما زالت تملك مؤسسات متماسكة تمنع الانهيار، بينما لبنان يقف عاريًا أمام رياح الأزمات دون مظلة دولة حقيقية.
في المعادلة الكبرى او الشاملة، يمكن القول ان ما يحدث في باريس ليس أزمة حكومة بل عرضٌ لمرضٍ أعمق أصاب الديمقراطيات الغربية إنها مرحلة “التعب الليبرالي”، Liberal Fatigue حيث تفقد الأنظمة قدرتها إدارة الانقسام الداخلي وضبط التوازن بين النخب والشارع. تعب فرنسا وجه آخر لتعب أوروبا بأكملها، كما انعكاس غير مباشر لأزمة الثقة التي تهزّ النظام الدولي في زمن ما بعد الأحادية.
اخيرآ؛ إستقالة ليكورنو ليست تفصيلاً، بل إشارة إلى انكفاء الدور التقليدي لبلاده وتحولها من لاعب أساسي إلى مراقب . ربما تكون بداية مرحلة جديدة عنوانها تقلص “النفوذ الفرنسي” مع “الغياب الأوروبي”، لتتقدّم واشنطن كالمعتاد موسعة حضورها. بالتوازي مع تحرك الدبلوماسية العربية والسعودية اساسآ في اتجاه الإمساك اكثر بزمام المبادرة.. فيما يبقى لبنان في قلب هذا التحوّل — متأرجحًا بين الفرصة والضياع..!
————————————
*عميد متقاعد، مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.