سليمان العيسى : أنا خلية في جسد كل عربي

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

لا أذكر متى عرفتك ، وأحسب أن كثيرين مثلي يتساءلون، أترانا عرفناك يوم ولدنا ؟ حفظنا كلماتك في قلوبنا وأحيانا كنا نحفظها دون أن نعرف معناها فكتبت لنا أطفالاً وكتبت لنا كباراً… فمن أنت؟
سليمان العيسى: “أنا خليةٌ في جسد عربي،
تبحث عن ملايين الخلايا من أخواتها،
وتكافح لكي يتحرك الجسد،
وتبعث فيه الحياة.”
حدثنا عنك أكثر…
سليمان العيسى:”اسمي سليمان العيسى.ولدت عام 1921 في قرية النعيرية السورية على ضفاف نهر العاصي. وفي بيت والدي الشيخ أحمد العيسى، حفظت القرآن الكريم وأنا في السابعة. وبعدئذ حفظت المعلقات، والمتنبي، ومئات القصائد القديمة والحديثة وتمكّنت من العربية الفصحى.
تلك الطفولة الغنية ثقافياً كانت فقيرة مادياً، إلى الحد الذي جعل والدي يتأخر في إرسالي إلى المدرسة الابتدائية الوحيدة التي كانت في المدينة حتى الرابعة عشرة من عمري.”
بدأ سليمان العيسى كتابة الشعر في التاسعة أو العاشرة من عمره… فأي المواضيع يمكن أن تستحوذ على تفكير فتى في هذه السن الصغيرة؟
سليمان العيسى:” حزَّ في نفسي منذ الصغر أن أرى أهلي وأقرانهم من الفلاحين يكدُّون، ويتعبون في العمل الزراعي، ولا يجنون منه إلا القليل، بينما ينعم آغا القرية بحياة هادئة، في بيته الجميل، بأعلى الجبل، ويأتي في نهاية الموسم لتحصيل جلّ ما أعطته الأرض.هذا الرفض للظلم والاستغلال سجلتُهُ في الأبيات الأولى التي كتبتُها في طفولتي، كما في هذين البيتين الساخرين:
ألا يـا أيها الفقراءُ موتـوا
لكم في جنة الفردوس قـوتُ
لقـد بُنيت لكم ثَمَّ البيـوتُ
وكوثركم بـها يجـري شهيا
وظل هذا الرفض يشكل جزءاً لا يتجزأ من ذاتي حتى الآن، ويملي عليَّ عشرات القصائد، ومئات الأبيات التي تتحدث عن جهد الكادحين وهمومهم.”
دخل سليمان العيسى المدرسة الابتدائية في “مدينة أنطاكية” وكانت ثورة لواء الاسكندرون العربية قد اشتعلت بعدما أحسّ عرب اللواء بمؤامرة فصله عن الوطن الأم:سوريا. ومنذ ذلك الحين بدأ العيسى معاركه النضالية.
عام ألف وتسعمئة وتسعة وثلاثين ، سلخ لواء الإسكندرون عن سوريا وتمّ تسليمه لتركيا ، وقد أدى ذلك إلى تشريد أهل اللواء وتشتيتهم. وكان بين الأسر التي نزحت عن اللواء أسرة الشيخ أحمد العيسى، وكان من أبناء هذه الأسرة سليمان العيسى، وهو فتى في الثامنة عشرة من عمره كان يقرض الشعر ويشارك بقصائده القومية في التظاهرات والنضال القومي الذي خاضه أبناء اللواء ضد الاغتصاب.
ولم يمرّ على هذه الحادثة غير تسع سنوات حتى سقطت فلسطين بأيدي الصهاينة ، ووقف الشاعر يتأمل المهاجرين الفلسطينيين بعين الحسرة، فيرى في حالهم ظلالاً سوداء لحاله وحال أهله، فراح يخاطب أحد اللاجئين الفلسطينيين:
سليمان العيسى:أنا مثلكَ استَلَبوا ملاعبَ
فجريَ الأولى اسْتِلابا
أنا مثلكَ اغتصبوا ترابَ
طفولتي الحلوَ اغتصابا”
قضية فلسطين وما شكّلته بالنسبة للعيسى ترجمها أيضا في قصائده:
سليمان العيسى: “فِلَسْطِينُ داري وَدَرْبُ انْتصارِي
تَظَلُّ بِلادِي هَوىً في فُؤادِي
وَلَحْناً أَبِيَّا على شَفَتَيَّا
وُجوهٌ غَرِيبَةْ بأَرضِي السَّلِيبَةْ
تَبِيعُ ثِمارِي وتَحْتَلُّ داري
وأَعْرِفُ دَرْبِي ويَرْجِعُ شَعْبِي
إلى بَيْتِ جَدِّي إلى دِفْءِ مَهْدِي
فِلَسطِينُ داري ودربُ انتصاري”
منحة دراسية إلى العراق قادته إلى «دار المعلمين» في بغداد. هناك تعرّف إلى زميله في الدراسة بدر شاكر السياب، ثم عبد الوهاب البياتي، ولميعة عباس عمارة، ليعود بعدها إلى حلب، ويعمل في سلك التعليم ويتابع الكتابة والنضال القومي حتى ربيع العام 1967 .
وتجيء هزيمة حزيران 1967 وأنظر الى سليمان العيسى وهو يتلو عليّ من أوراقه بكل لوعة وأسى:
سليمان العيسى:”الكارثة تغلّ روحي
تسد عليّ المنافذ
تذبح في عينيّ النور…تدفنه حيا
طوال عام كامل لو أستطع أن اقول بيتا
أن أكتب كلمة
طوال عام كامل كنت أتنفس الذلّ
أختنق بالعار
ومن يختنق فانه لا يستطيع أن يكتب”
فقد الشاعر ثقته بقدرة الكبار على تحقيق أحلام الأمة، فانصرف بإبداعه إلى من يحملون الأمل، إلى الطفولة التي لم تلوث، وهي تحتاج إلى ينابيع تستقي منها العقيدة والإيمان. وهكذا تحوّل سليمان، من شاعر الشعلة الحمراء، إلى حمامة بيضاء تهدهد للصغار، وتحكي لهم قبيل النوم، عن المعري والمتنبي وأبي تمام، وتقصّ روايات السندباد.لماذا اخترت عالم الطفولة؟
سليمان العيسى:”إنهم امتدادي وامتدادك في هذه الأرض، هم النبات الذي تبحث عنه أرضنا العربية لتعود إليها دورتها الدموية التي تعطّلت ألفَ عام، وعروبتها التي جفّت ألف عام.. إنني أكتب للصغار لأسلّيهم، ربّما كانت أية لعبة أو كرة أجْدى وأنفع في هذا المجال، لكنني أنقل إليهم تجربتي الإنسانية، أنقل إليهم همومي وأحلامي.”
بعد حلب أقام الشاعر سليمان العيسى في دمشق ما يزيد على العشرين عاما.وأسهم مع رفيق طفولته في لواء اسكندرون، صدقي إسماعيل، في تحرير جريدة ساخرة، اسمها «الكلب» كان صدقي يحرّرها بخط يده. شغل سليمان العيسى كثيرا من المواقع الثقافية سواء على صعيد التدريس أو على صعيد الثقافة فكان الموجه الأول للغة العربية في وزارة التربية والتعليم في سوريا ورئيساً لتحرير مجلة «المعلم العربي» وعضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق وهو من أبرز مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في سوريا.
وانكبّ فترة من حياته على تعريب أعمال كتّاب جزائريين يكتبون بالفرنسية أمثال مالك حدّاد، وكاتب ياسين، ومحمد ديب، بمشاركة رفيقة دربه ملكة أبيض.
في التسعينيات، أحسَّ الشاعر سليمان العيسى بأن هواء دمشق يضيق به، فرحل إلى اليمن بهدوء.استقر في اليمن 15 عاماً، أنجز خلالها سبعة دواوين، وكرّمته صنعاء بما يليق بشاعر مثله، أهدى معظم البلاد العربية دواوين بأسمائها من اليمن إلى الجزائر بوصفها أمةً واحدة.
سليمان العيسى:”وفيما يخص الوطن العربي وأقطاره، فقد اجتمع لدي:”ديوانُ الجزائر” و”ديوان فلسطين” و”ديوان اليمن” و”ديوان العراق” و”ديوان لبنان” وديوان “أنا ومصر العربية” وبالإضافة إليها الدواوين الخاصة بسورية مثل: “ديوان دمشق- حكاية الأزل” و”ديوان حلب” و”ديوان الساحل العربي السوري”… لقد حفلت هذه الدواوين بهمٍّ عربي واحد ينبض فيها جميعاً.
كان الشعر الذي ضمته بين دفتيها يتحدث عن الوطن العربي أرضاً وناساً، ماضياً وحاضراً، كما يتحدث عن المشكلات التي يعاني منها، وكفاحه الذي يصل أحياناً إلى حد الثورة. وفي ثورة الجزائر وثورة فلسطين التي لم تهدأ بعد وفي المقاومة التي خاضها وما يزال يخوضها لبنان، أنصع مثال على ذلك.”
من الشمال والغرب إلى الشمال والوسط إلى القلب في دمشق، وإلى وإلى، جاب سليمان العيسى سورية وعرّج على عراق الهوى، وتعشق عدن اليمن، ليحرس بقوافيه وكلماته وعيونه حدود الجزائر وأدبه، ويتشبث في بنغازي بكبرياء عمر المختار.لكن تجربة اليمن التي زارها في التسعينات واستقر فيها خمسة عشر عاما كانت من أخصب سنوات حياته.
بعد عودته من مغتربه اليمني إلى دمشق، لزم بيته في حي مشروع دمّر، بعيداً من الأضواء. إلى أن اشتد عليه المرض، وذهب في غيبوبة استمرت أشهراً في أحد المستشفيات الحكومية، في صراع طويل مع المرض حتى غيّبه الموت في التاسع من شهر آب\أغسطس لعام 2013.
نال سليمان العيسى في حياته العديد من الجوائز بينها جائزة “لوتس” للشعر من اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا وجائزة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «ألسكو» لأدب الأطفال وجائزة الابداع الشعري من مؤسسة البابطين.فهل رحل حقا؟
سليمان العيسى:”كَجُذُورِ السِّندِيانْ
سوفَ أبقَى
كالصَّحارَى . كالزَّمانْ
سوفَ أبقَى
ومن القبرِ العَتِيقْ
ومن المَهْوَى السحيقْ
ومنَ الموتِ الذي يُرْهِقُني
ومن الذلِّ الذي يَسحَقُني
عربياً سوفَ أبقَى
شاعراً للريحِ ، إنساناً سأبقَى
كَجُذورِ السِّنْدِيانْ
كالصَّحارَى ، كالزمانْ
سوفَ أبقَى
سوفَ أبقَى”