زيارة الشرع لواشنطن .. براغماتية قائمة على الانفتاح والتنازل
خاص – “الدنيا نيوز”

بقلم العميد منذر الأيوبي
وصفها المراقبون والمحللون بالحدث التاريخي، فبعد قطيعةٍ دامت عقودًا بين دمشق وواشنطن، وفي مشهدٍ غير مسبوق منذ استقلال سوريا، جلس الرئيس أحمد الشرع في المكتب البيضاوي على وثير مخملي. الزيارة بدت في ظاهرها خطوة دبلوماسية روتينية، لكنها حملت في طياتها أبعادًا تتجاوز البروتوكول إلى تحديد موقع سوريا كما يريد الرئيس ترامب في معادلات الشرق الأوسط.
منذ مطلع الألفية، والعلاقات السورية – الأميركية في حالة من الجفاء العميق، تجمّدت خلالها قنوات التواصل وتراكمت ملفات العقوبات والاتهامات. لتأتي الزيارة إعلانًا واضحآ عن انتقال سوريا من خانة “العزلة السياسية” إلى خانة “الحضور المحسوب” تحت المظلة الاميركية.
كما ان التحوّل من موقع الخصومة إلى موقع الحوار يعكس في الظروف الراهنة نضجًا براغماتيًا للسياسة السورية، وانفتاحًا أميركيًا مدروسًا على دمشق. إنها لحظة كسرٍ الحاجز النفسي وبالتالي السياسي طال أمدها، وتأكيد أن الجغرافيا لا يمكن أن تُمحى بالعقوبات أو العزلة، وأن دمشق — رغم كل ما مرت به — لا تزال تحتفظ بموقعها الجيوسياسي في الاقليم.
سياقآ؛ أظهرت الصور الرسمية وِدّآ واضحآ بين ترامب والشرع،، لكن ما اعلنته وسائل الإعلام عن رفع جزئي للعقوبات الاقتصادية، وإشارات أولى حول إمكانية انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، لم يُشفِ غليل المراقبين والمحللين، لتتجه الأنظار إلى نيكاتيف الصور وظلال الملفات التقنية، ليصح التساؤل حول ما خفي من أثمان سياسية وشروط مرتبطة بالتوازنات المُعاد صياغتها.
يمكن القول على إستنتاج لا إستنباط، ان إدارة الشّرع تسعى لإثبات أهليتها في الحكم وللدور المسنود اليها، كما اعادة سوريا إلى المجتمع الدولي والغربي عبر البوابة الرئيسية واشنطن، فيما باتت الأخيرة ممسكة بالورقة السورية لموازنة او تحجيم النفوذ الروسي مع تشديد الحصار الاستراتيجي على ايران وأذرعها. عند هذا التقاطع تتحرك مصالح معقّدة ترسم الحدود الجيوسياسية لِ “سوريا المُمكنَة” على أساس مَنعُ تقسيم او فدرلّة.
من جهة اخرى؛ من الواضح ان الرئيس الاميركي تجاوز استراتيجيات سابقة من نوع إسقاط الانظمة المتمردة او المتحالفة شرقآ لصالح الفوضى او الشرذمة، بل توظيفها لاستكمال الاهداف عبر الاحتواء، مع الربط بدائرة النفوذ الغربي من خلال ثلاثية إجرائية “السياسة -الأمن- الإقتصاد”.. ليكون الشرع نموذجآ حيّآ، هو الآتي من رحمِ تنظيمات اصولية إرهابية التصنيف ولإتِباعه سياسة عقلانية وإيجابية مُنِح فرصة الإلتزام والنجاح مع قارورة عطر مميزة..!
غادر الشرع البيت الأبيض وعلى كتفه ثقلين الاول مدى قدرة النظام السياسي السوري على استثمار الانفتاح الخارجي لإعادة بناء الداخل، إذ أحدثت الزيارة موجة من الجدل بين متفائلٍ بانفراجٍ اقتصادي وسياسي ومتخوّفٍ من تنازلاتٍ قد تمس جوهر السيادة. اما الثاني فمتعلق بقدرته على الإيفاء بتعهداته المضمرة والمعلنة للمُستَضيف بُنيَت على شروطٍ او إملاءات.
تاليآ، الأمر المؤكد أن الحدث أعاد سوريا دولة تحت الأضواء مرحب بها من العالم الحر بذلك تحولت من دولة محاصَرة إلى شريكة في الأمن الإقليمي. هذا التحول توازيآ يشكل عامل تشجيع ودفع نحو استثمار الانفتاح الخارجي لمصلحة بناء الدولة واعادة الإعمار.
بين الواقع والفلسفة السياسية وضعت الزيارة سوريا على مشرحة اختبار كفاءة دول الصف الثالث في التحرك والمناورة، ضمن فضاءٍ دولي مضطرب تحقيقآ لإستقرارها ومصالحها، ذلك على مقياس تفادي الإرتهان. ثم ان واقعية الشرع او ناصحيه تكمن في القراءة الصحيحة للظروف والإمكانات، حيث التعاون مع الادارة الاميركية ضامن إحداثيات التموضع الجيوسياسي الجديد. فالمسافة بين البيدق والقلعة مرمى مربعات على رقعة الشطرنج ، هنا يصبح الانفتاح والتنازل صنوان تحددهما براغماتية قائمة على توقيت واشنطن لا على توقيت المتوسط الشرقي..
ثم ان اللحظة باتت مؤاتية للتخلي عن أيديولوجيا التنظيمات الإسلامية القريبة او المتبناة من انقرة والدوحة، لصالح بناء علاقات سليمة مع قبلة المسلمين المملكة وأُم الدنيا بفائِضها القومي والعروبي، ما يخفف حذر كلاهما تجاه السلطة الجديدة، اذ لا مكان لتنظيم الإخوان المسلمين في مصر كما يتعذر تسلله إلى العربية السعودية ولو بعناوين مضللة..!
في المحصلة، تمثل الزيارة لحظة استعادة للسياسة كفنٍ التوازن لا كصراعٍ للغلبة. وإذا كانت الجغرافيا قد حكمت تاريخ سوريا، فإن الوعي السياسي بدأ يكتب اليوم فصلًا جديدًا من السيادة — سيادة الوعي قبل سيادة القرار فهل تنجح التجربة..؟؟
*عميد متقاعد؛ مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية*
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.