روسيا والصين هل تلتقيان؟ ( 2 / 2 )

بقلم : توفيق شومان*

(2/2)
منذ مطالع ستينيات القرن الماضي ، بات الصراع بين الشيوعية السوفياتية والشيوعية الصينية عنوانا ومشهدا مألوفين من عناوين ومشاهد الصراعات الدولية المختلفة ، بل إن النقائض المتضادة استحكمت بمجمل العلاقات الصينية ـ السوفياتية ، فالإتحاد السوفياتي ساند الهند في حربها الحدودية مع الصين عام 1962، والصين اتخذت موقفا معارضا للإتحاد السوفياتي وكوبا خلال أزمة الصواريخ الكوبية في العام عينه ، كما اعترضت الصين على التدخل السوفياتي في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 ، ولتشتعل الحدود الصينية ـ الروسية عام 1969 بمعارك كبرى كادت أن تتحول إلى حرب كبرى .
هذه النقائض في علاقات واستراتيجيات الطرفين ، ستنتج منذ آواخر ستينيات القرن المنصرم تقاربا صينيا ـ أميركيا ، وشكلت زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى العاصمة الصينية بكين عام 1972 منعطفا تاريخيا في العلاقات الصينية ـ الأميركية بهدف تطويق النفوذ السوفياتي ، ومن مفارقات هذا الإنعطاف أنه بعد رحيل الزعيم الصيني ماو تسي تونغ عام 1976، سعى القادة السوفييت إلى تصويب علاقاتهم مع الصين ، انطلاقا من مقولة براغماتية تقول إن منظومة النزاع يُفترض أن ترحل مع رحيل أشخاص النزاع ، ولكنهم جوبهوا بصد صيني عنيد ، وجاء عام 1979 ليفتح جراحات جديدة بين موسكو وبكين إثر الغزو الصيني لفيتنام المجاورة ، مما عنى ، آنذاك ، أن أبواب المصالحة بين عاصمتي الرايات الحمر ما فتئت مقفلة .
من الواضح أن قرنا كاملا من الصراعات الثنائية العاصفة بين روسيا والصين ( بإستثناء سنوات سمان معدودات في خمسينيات القرن العشرين ) ، أنتج ثقلا نزاعيا تاريخيا انعكس على المرحلتين الملكية والشيوعية في روسيا ، ولكن ابتداء من عام 1996 اتجه الطرفان إلى إعادة ترتيب أو تنظيم العلاقات البينية ، على قاعدة الخروج من ثقل التاريخ ، وفي العام المسبوق ذكره ، أطلق الرئيسان الروسي والصيني ، بوريس يلتسين وجيانغ زيمين ، نواة ” منظمة شنغهاي ” وفي عام 2001، باتت المنظمة كما تعرفها هيئة الأمم المتحدة ” منظمة حكومية مجال عملها في قضايا الأمن والتنمية الإقليميين ومكافحة الإرهاب والنزعات الإنفصالية العرقية والتطرف الديني ” ، ويفند راشد عليموف الأمين العام للمنظمة مهامها بالقول : ” تهدف منظمة شنغهاي إلى بناء نظام عالمي متعدد المراكز، وباعتبارها منظمة متعددة الجنسيات ومتعددة الثقافات ، فإن منظمة شنغهاي تسعى إلى إخماد صراع الحضارات في جميع مناطقها بالتحديد “.
إن الخروج من أثقال التاريخ ، مثلما فعلت ألمانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية ، وعلى النحو الذي يعمل عليه الصينيون والروس ، دفعهم إلى الإتفاق على ترسيم أكثر من أربعة آلاف كلم من الحدود المشتركة ، وإقامة منطقة منزوعة السلاح على طول الحدود المذكورة عام 2004، وما بين الأعوام 1999 و2006 شكلت الواردات العسكرية الصينية ستين في المائة من مبيعات السلاح الروسية إلى الخارج ، وأجرى الجيشان ، الروسي والصيني ، تدريبات عسكرية مشتركة في عام 2018، وهي في عرف الجيوش ” الآمان المتبادل ” ، وجراء هذا التطور الملحوظ في العلاقات الثنائية ، توصلت روسيا والصين إلى إطار تفاهم ذي عناوين ثلاثة : لا تحالف ـ لا تعارض ـ لا توجه إلى دولة ثالثة .
ثمة عوامل أساسية تدفع لتطوير العلاقات بين موسكو وبكين ، أهمها :
ـ التأسيس لعالم متعدد الأقطاب كما تنص ” منظمة شنغهاي “.
ـ تراجع التحديات الأمنية المتبادلة ، فبالنسبة لروسيا ، تقدمت هواجس الأمن من جانب أوكرانيا ودول البلطيق والحدود الغربية مع ” الناتو ” وكذلك من المجال الحيوي الروسي في آسيا الوسطى ومن اليابان ، فضلا عن التحدي الأميركي التقليدي ، وأما الصين ، فتحدياتها الأمنية المتقدمة ، متمحورة حول هونغ كونغ وتايوان وبحر الصين وفيتنام والهند ، بالإضافة إلى الحروب الإقتصادية مع الولايات المتحدة الأميركية .
ـ وصول الشراكة التجارية بينهما إلى 110مليارات دولار في عام 2019 كما أفادت وكالة ” سبوتنيك ” الروسية (9 ـ 4ـ 2020) ويطمح الجانبان إلى رفع هذه الشراكة إلى 200 مليار دولار في عام 2024 .
هل يعني كل ذلك أن روسيا والصين خرجتا من أثقال التاريخ ؟.
قد يكون من الصعوبة بمكان ، الحصول على إجابة قاطعة ، سالبة أو موجبة ، وربما تكون الإجابة المتحفظة تنطوي على حكمة مطلوبة في مرحلة التحولات العالمية الكبرى ، خصوصا أن أثقال التاريخ تترك نوازعها النفسية والعملية في عالم السياسة وموازين المصالح ، وهذا ما يمكن ملاحظته في آراء وكتابات بعض النخب الروسية المستمرة في إشهار هواجسها من الصين ، ومنها ما كتبه نيكيتا إيسايف ( غيبوليتيكا ـ 1ـ 11ـ 2017 ) تحت عنوان ” روسيا قد تدفع غاليا ثمن الصداقة مع الصين ” داعيا إلى ضرورة العمل بحذر شديد مع الشريك الأكبر في الشرق ، و كتب ألكسندر خارالوجني، في ” فوينيه أوبزرينيه ” بتاريخ 19 ـ 3ـ 2020 معلقا على حرب أسعار النفط بين روسيا والسعودية فقال : ” الصين دخلت حرب النفط إلى جانب خصوم روسيا ، للأسف، يظهر الرفاق الصينيون مرة أخرى أن من العبث والخطر اعتبارهم حلفاء لروسيا “.
بحسب المنطق السياسي ، من المحتمل أن تكون الآراء الآنفة الذكر ، متأتية من لحظة انفعالية أو كونها أصداء لتيار نخبوي روسي يعارض الإتجاه الأوراسي ، وإذا كان من الإستحالة أن تصطف النخبة الروسية وراء رؤية موحدة في تصورها لعلاقات روسيا الخارجية ، إسوة بالتباين النخبوي القائم في دول العالم كافة ، لكن ما كتبه يوري تافروفسكي ( 17 ـ 7 ـ 2020) في ” موسكوفسكي كومسوموليتس ” يلفت الإنتباه ، إذ يقول هناك : ” مخلفات عدم الثقة بين نخب البلدين السياسية والتجارية ، ففي روسيا لا تزال هناك شكوك حول رغبة الصين في انتزاع سيبيريا والشرق الأقصى من روسيا ، وفي الصين تجري تغذية الحديث عن الخطأ التاريخي في انضمام سيبيريا والشرق الأقصى إلى الإمبراطورية الروسية “.
ما يجدر وضعه في دائرة الجدال والنقاش حول العلاقات الصينية ـ الروسية ، هاتين النقطتين المرتبطتين بالشرق الأوسط :
ـ منذ عام 2017، تتحرك روسيا بإتجاه الغرب وأصدقائه لإعادة إعمار سوريا ، وإذ جاءت الإجابات الغربية لتربط المشاركة في إعادة الإعمار بالحل السياسي ، فإن روسيا لم تتجه نحو الصين ، علما أن الأخيرة تمتلك قدرات مالية هائلة تؤهلها لإعادة إعمار سوريا منفردة ومن دون الإستعانة بصناديق المال الغربية .
ـ تاريخيا ، لم يكن للصين موطىء نفوذ على البحرالأبيض المتوسط ، فيما تقاتل روسيا منذ 250 سنة للحفاظ على نفوذها المتوسطي ، وإذ شكلت سوريا منفذا لروسيا على ساحل البحر المتوسط منذ عام 1955، وتبعتها مصر في السنة نفسها بعد صفقة الأسلحة التشيكية ، ثم الجزائر إثر حرب التحرير الشعبية وهزيمة الفرنسيين عام 1962، ومن ثم ليبيا عام 1969 عقب الإنقلاب العسكري على الملك ادريس السنوسي ، فإن السؤال الناتج عن كل ذلك : هل يسمح الروس للصينيين بالوصول سلما إلى شواطىء المتوسط بعدما خاضوا حروبا ضروس ودفعوا أثمانا باهظة ليشاركوا السلطنة العثمانية وأوروبا ، ولاحقا ، الولايات المتحدة مواقع النفوذ في هذا البحر ؟.
المتفائلون بتطوير العلاقات الصينية ـ الروسية ، يرون أن الظروف الحالية أنتجت معايير مختلفة عن أثقال الماضي ، والتحديات المشتركة التي تواجه روسيا والصين توجب الشراكة الإستراتيجية بينهما ، إلا أن هذه الرؤية التفاؤلية ، تقابلها رؤية متحفظة ، مضمونها ينهض على ثلاثة أسئلة :
ـ ما الذي يؤخر دعوة روسيا للصين لإعادة إعمار سوريا ؟.
ـ هل تتقبل روسيا تموضعا صينيا تجاريا ـ اقتصاديا ـ استراتيجيا على شواطىء البحر الأبيض المتوسط ؟
ـ هل خرج الروس والصينيون من أثقال التاريخ ؟ أم أنهم يعملون على إزالة هذه الأثقال فينجحون مرة ويخفقون في أخرى ؟.
هذه الأسئلة للنقاش … أو مادة للنقاش .
ـ راجع الجزء الأول ( صراعات الصين وروسيا من آوخر القرن التاسع عشر حتى النصف الأول من القرن والعشرين ).
……………………………………………………………………

* كاتب، إعلامي وباحث