روسيا منصة الغاز الاوروبية..!

بِقَلَم: العميد مُنذِر الايوبي*

يوم بدء ضخ الغاز المسيل من مدينة Vyborg الروسية الى مدينة Kriegsfeld الالمانية خلال شهر تشرين الثاني من عام 2012 بواسطة خط الانابيب المزدوج North Stream؛ كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينظر الى الخارطة الاوروبية معتبرآ ان قراره الاستراتيجي تحقق، فالامر يتجاوز الاستثمار التجاري والتنمية الاقتصادية، اذ ان ابعاده ونتائجه الجيوسياسية هي الاهم “تكبيل اوروبا بالحزام الغازي” والقيد الروسي..!
تاليآ؛ واجهت المرحلة الثانية من انشاء خط الغاز المعروف ب “ألسيل الشمالي” North Stream 2 معارضة شرسة من الولايات المتحدة الاميركية قاربت الخصومة او الاشتباك السياسي مع عدة دول اوروبية لا سيما حليفتها المانيا -العضو الاهم في حلف شمال الاطلسي- الشريك الاساسي في المشروع ودولة المصب، تمثلت في فرض جملة عقوبات على شركة “غاز بروم” الروسية العملاقة والكيانات المشاركة في انشائه مثل شركتي يونيبر وفنترسهال الالمانيتين- رويال داتش الإنجليزية-الهولندية والفرنسية آنجي و”أو.ام.في” النمساوية،
لم تُجدِ قرارات واشنطن العقابية والاعتراضية، فبعد سنوات من بدء العمل، شهد شهر ايلول من العام الحالي 2021 اطلاق عملية الضخ في الانبوب الجديد North Stream 2 الذي يعتبر خط الغاز الاطول في العالم 1230 Km، والممتد في عمق مياه بحر البلطيق نحو المانيا وبعض دول اوروبا بتكلفة 10 مليار دولار، ما يرفع قدرة التغذية بالغاز الروسي الى “55 مليار متر مكعب”عام 2030، كما يجعل من روسيا “الخصم الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلف شمال الاطلسي” العمود الفقري المعتمد اوروبيآ في مجال الطاقة على المديين المتوسط والبعيد .. !

تزامنآ؛ مع افتتاح المشروع اعتبر مراقبين اوروبيين ان مواقف واشنطن غير ذات صلة بالمخاوف الامنية او التهديد الاستراتيجي، بل يتعلق بمصالحها التجارية لجهة تزويد اوروبا بالغاز الصخري وما يترتب من اكلاف هائلة.. في نفس الوقت نجحت الماكينة الالمانية بادارة المستشارة انجيلا ميركل في التوصل الى نوع من التسوية افضت الى قرار الرئيس الاميركي جو بايدن رفع العقوبات مرحليآ، مع لحظ بند “اتخاذ اجراءات عقابية بحق موسكو ان استغلت مستقبلآ انابيب الطاقة كسلاح لمزيد من الاعمال العدوانية”..
توازيآ، اعلن الرئيس الاوكراني فولوديمير زيلنسكي انه يعتبر NS 2 “سلاح جيوسياسي خطير” بيد موسكو يقوض نفوذ وقدرة “كييف”على المواجهة، متسببآ بحرمانها 1.5 مليار دولار سنويآ هو ثمن عبور الغاز الروسي عبر أراضيها نحو أوروبا..

في سياق متصل؛ دفعت هواجس “كييف” بشأن خسارتها المليارات الروسية الى تكليف الحكومة الالمانية التوسط لدى موسكو بهدف تجديد الاستفادة من مرور الغاز الروسي عبر اراضيها.. لم يرفض الرئيس بوتين خلال لقائه في وقت سابق المستشارة الالمانية ميركل رغبتها ووساطتها، اذ اكد امامها التزام بلاده عقد تمرير الغاز مع أوكرانيا حتى نهايته، لا سيما بعد ان امسك مطرقة الضغط الاقتصادي بوجه التمرد الاوكراني..
بالمقابل؛ وضمن الحرب الاقتصادية الدائرة في مجال موارد الطاقة وبدعم من واشنطن والاتحاد الاوروبي، وقعت كل من تركيا ورومانيا وبلغاريا والنمسا وهنغاريا (المجر) خلال شهر تموز المنصرم اتفاقية انشاء خط الغاز الطبيعي Nabucco المرتبط اساسآ بخط الانابيب القادم من “باكو” عاصمة اذربيجان، والممتد من منطقة “أرضروم” Erzurum التركية الى Baumgarten an de March النمساوية، البالغ طوله 3300 كيلو متر بقدرة ضخ 31 مليار متر مكعب سنويآ،.

استطرادآ، سيكون خط “نابوكو” في اهدافه وحال انجازه محاولة لتحويل امداد اوروبا بالغاز الطبيعي دون المرور عبر روسيا، في حين تعتبره الاخيرة مشروعآ خارجآ عن اطار المنافسة التجارية ومعاديا، يدخل ضمن الصراع الاقتصادي الخارج عن العشوائية على توريد الطاقة الغازية بخلفية جيوسياسية..
في النتائج؛ يبدو جليآ ان Nabucco ابعد من فرصة استثمار اذ سيكون في سيبة اهدافه المباشرة تقليص او تجريد موسكو قدرتها على استخدام “السيل الشمالي 1 و 2” كوسيلة ضغط واخضاع لدول اوروبا عند الاقتضاء؛ كما ان آحادية التغذية ستؤدي في حالة النقص “بقرار” او اضطراب الامدادات “لا اراديآ” الى مضاعفات على الصعد الاوروبية كافة، ليس اقلها انعدام الندفئة وتوقف حركة الانتاج الصناعي..!

من جهة اخرى؛ في تراكم ملاحظات ومراقبة سياسة الكرملين خلال سنوات حكمه، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يترك فرصة ولا يعدم وسيلة لاستغلال الحاجات والاحداث الدولية لصالح بلاده وعلى التوقيت المناسب.. كما اثبت ايضآ قدرته على صنع الحدث ومن ثم استثماره وفق توجهاته على عدة مستويات تخدم في مجموعها السياسة الخارجية الروسية..! فمن المنظور الاستراتيجي البحت ثبتت انابيب السيل الشمالي 1 و 2 روسيا كمنصة استخراج وامداد بالغاز الطبيعي لا غنى عنها لجزء كبير من القارة العجوز، كما ان شبكة التوزيع العنكبوتية المتفرعة باتت تحاصر دول شرق اوروبا واوكرانيا المناوئة لها.

ختامآ؛ يخضع الصراع الجيوسياسي مع اوروبا للمعالجة من قبل الكرملين بميزان الذهب، دون استبعاد الحافة النووية او المواجهة العسكرية الكلاسيكية عند الضرورة، كالتدخل العسكري في اوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم الى الاتحاد الروسي عام 2014، مع جعلها كيانين فدراليين روسيين جمهورية القرم ومدينة Sevastopol الاتحادية.. اما مصادر الخطر والتهديدات التي تواجهها موسكو على المستويين العسكري والامني كما مكافحة الارهاب والتطرف والحرب السيبرانية وغيرها من تحديات فهي تخضع لمستوى من الثقة بالقدرات الوطنية للمواجهة لطالما اثبتت نجاعتها وتفوقها. يبقى الاشارة ان من مصادر الثقة الاساسية نجاح الرئيس الروسي في لململة اشلاء الاتحاد السوفياتي سابقآ وتدريجيآ بالسياسة تارة او عبر التلويح بترسانته العسكرية الهائلة والمتطورة تارةً اخرى؛ اضافة الى تثبيت دولته قطبآ شريكآ في حكم الكوكب مع الولايات المتحدة الاميركية…

————————

بيروت في 24.10.2031