حين تحوِّل الأحزاب الايديولوجيا الى أدوات تعبئة

خاص – “أخبار الدنيا”

 

بقلم : العميد منذر الايوبي*

في السياسة، لا يتحرك البشر ضمن خرائط المصالح فقط، بل أيضًا ضمن مسالك الإيمان. بين المبدئية والواقعية فجوة ليست تقنية أو إجرائية، بل وجودية تقريبًا؛ إذ يعيش السياسي والحزب معًا بين ما ينبغي وما يمكن أن يكون. كثير من العقائد الأيديولوجية ولدت من رغبة في عالم أكثر مثالية، لكنها اصطدمت بعالم يتصرف كما لو أنه مُصمَّمٌ لامتحان أي يقين، ولتفكيك أي فكرة حين تلامس الأرض.

الأيديولوجيا، في جوهرها، ليست برنامجًا سياسيًا بقدر ما هي وعدٌ بالمعنى، وإحساسٌ بالانتماء، وسردية تمنح الإنسان قناعةً في عالم قليل اليقين. لكنها أيضًا امتحان للطموح حين يواجه الممكن. هنا يظهر السؤال الذي يلازم كل تنظيم سياسي: هل يُبقي الحزب على متانة المبدأ، أم يستسلم لتعرّجات الواقع كي لا يفقد ديمومته وقدرته على البقاء والتأثير..؟

في الحالة اللبنانية، تتخذ هذه الإشكالية وجهآ أكثر تعقيدًا. فالأحزاب تتحرك ضمن نظام طائفي يجعل الهوية السياسية غير منفصلة عن الهوية الوجودية للجماعة. بعض الأحزاب تستمد معناها من مرجعية دينية، وبعضها من سرديات قومية أو ليبرالية، وبعضها الآخر من خليط يتكئ على الذاكرة الجماعية والقلق الوجودي للجماعات. هذا التنوع لا يخلق حيوية فقط؛ بل يخلق هشاشة أيضًا. فالتوازن المذهبي أشبه بميزان حساس، يكفي أن تُحرَّك إحدى كفّتيه حتى يستيقظ شبح الانقسام أو ترتفع أصوات تدعو إلى نماذج بديلة كاللامركزية والفدرالية.

هنا، يتجلى البعد الفلسفي للأزمة اي حين تتحول الأيديولوجيا من معنى إلى أداة، ومن رؤية إلى سلاح تعبئة. كثير من القيادات تلجأ إلى شدّ العصب الطائفي لا بوصفه خيارًا سياسيًا، بل كآلية حفاظ على جمهور يشبهها ويخاف ما تخافه. يصبح الانتماء السياسي امتدادًا للغريزة لا للفكرة؛ ما يحوّل الجمهور من ذات نقدية إلى جمهور قلق يبحث عن حماية، حتى لو جاءت من نظام يستنزفه.

الواقع اللبناني يقدّم مثالًا صارخًا على هذا الانزلاق؛ فالتكيّف الذي يفترض أن يكون حيلة للبقاء السياسي، تحوّل إلى زبائنية تكافلية؛ حزب يمنح خدمات، وجمهور يمنح ولاء. ولأن الخدمة مقننة تُمنح بجرعات تكفي الحاجة ولا تمنح الاستقلالية، يصبح الولاء ليس فعل اقتناع، بل فعل نجاة. هنا تتحول العلاقة بين الحزب وجمهوره من علاقة فكرية إلى إرتباط مصلحي، ومن علاقة وعي إلى قيد اعتماد. وهو انحدار فلسفي بقدر ما هو سياسي، لأنه يمسّ طبيعة الحرية كقدرة على الاختيار.

في هذا السياق، يصبح الانحياز العقائدي أو الديني واهيآ إن لم يُدعَّم بنقد ذاتي. الأحزاب التي تتعامل بمرونة مع الواقع قد تصنع أثرًا، فيما الأحزاب التي تتمسك بنقائها المفترض تجد نفسها تصطدم بجدار العالم. هذا ما أشار إليه عالم الاجتماع السياسي الألماني Max Weber حين تحدّث عن «أخلاق الاقتناع» و«أخلاق المسؤولية»؛ الأولى تقول ما يجب أن يكون، والثانية تبحث عمّا يمكن فعله ضمن شروط العالم. والفاعلية السياسية الحقيقية، كما يرى، لا تولد من أحدهما، بل من القدرة على حملهما معًا دون أن يسحق أحدهما الآخر.

قراءة الواقع ليست مجرد تحليل سياسي، بل هي تمرين على التفكير في طبيعة الإنسان. كيف نوازن بين الإيمان بالمبدأ والحكمة العملية..؟ كيف نحمي الفكرة من أن تتحول إلى وثن، ونحمي الواقع من أن يتحول إلى تبرير إنحراف..؟ وكيف نمنع المبادئ من السقوط في أخطر أشكال الفساد.. قناعًا يخفي مصالح ضيقة..؟

في النهاية، السياسة ليست سعيًا إلى السلطة فقط، بل إلى معنى يليق بمجتمع يريد أن يحيا. الأحزاب تصبح ناضجة حين تستبدل الولاء الأعمى بالوعي، وحين تعيد توجيه انتماء جمهورها إلى الدولة لا إلى الطائفة، وإلى المبدأ لا إلى الخوف. هنا فقط يمكن للسياسة أن تتحول من لعبة مصالح إلى ممارسة تعيد للمجتمع قدرته وحريته على أن يحلم، أن ينتقد وأن يختار.

————————-

*عميد متقاعد؛ كاتب.

📢 اشترك بقناتنا على واتساب
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.
انضم الآن