توفيق الحكيم .. رائد المسرح الذهني وواحد من الرموز الفكرية في مصر

 

“الدنيا نيوز” – دانيا يوسف

“أملي أكبرُ مِن جَهدي، وجَهدي أكبر مِن موهبتي، وموهبتي سجينة طبعي، ولكنّي أقاوم”. (توفيق الحكيم)
أديب وروائي وكاتب مسرحي مصري، يعد من رواد الأدب الحديث وفن الكتابة المسرحية. وصفه النقاد بأنه “رائد المسرح الذهني”، ألف نحو 100 مسرحية و62 كتابًا.
ويُعد الحكيم من الأسماء البارزة في تاريخ الأدب العربي الحديث، وأحد الرموز الفكرية إلى جانب العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ، في فترة شهدت فيها مصر حركة ثقافية هامة، أثرت على المنحى السياسي الذي استقطب بعضهم لخدمته.
كانت للطريقة التي استقبل بها الشارع الأدبي العربي إنتاجاته الفنية، بين اعتباره نجاحًا عظيمًا تارة وإخفاقًا كبيرًا تارة أخرى، الأثر الأعظم على تبلور خصوصية تأثير أدب توفيق الحكيم وفكره على أجيال متعاقبة من الأدباء.
عاصر الحربين العالميتين 1914 – 1939. وعاصر عمالقة الأدب في تلك الفترة مثل مصطفى صادق الرافعي وطه حسين والعقاد وأحمد أمين وسلامة موسى. وعمالقة الشعر مثل أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وعمالقة الموسيقى مثل سيد درويش وزكريا أحمد والقصبجي، وعمالقة المسرح المصري مثل جورج أبيض ويوسف وهبي والريحاني. كما عاصر فترة انحطاط الثقافة المصرية (حسب رأيه) في الفترة الممتدة بين الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة يوليو 1939 – 1952. هذه المرحلة التي وصفها في مقال له بصحيفة أخبار اليوم بالعصر “الشكوكي”، وذلك نسبة محمود شكوكو.
المولد والنشأة
ولد توفيق إسماعيل الحكيم في 9 أكتوبر/تشرين الأول عام 1898 بمدينة الإسكندرية، لأب مصري من أصل ريفي يعمل في سلك القضاء، وكان من أثرياء الفلاحين، وأم تركية أرستقراطية، ابنة أحد الضباط الأتراك.
الدراسة والتكوين
التحق بمدرسة دمنهور الابتدائية وهو في سن السابعة، وانتهى من تعليمه الابتدائي عام 1915، ثم ألحقه أبوه بمدرسة حكومية في محافظة البحيرة، لكنه انتقل مع أعمامه إلى القاهرة لمواصلة الدراسة في مدرسة محمد علي الثانوية لعدم وجود مدرسة ثانوية في بلدته.
تفاعل مع ثورة 1919 وقبض عليه مع أعمامه وقبض عليهم واعتقلوا بسجن القلعة. لكن والده نجح في الإفراج عنهم، وعاد للدراسة مجددًا وحصل على شهادة البكالوريا عام 1921، وتخرج في كلية الحقوق عام 1925، فابتعث إلى فرنسا لمتابعة الدراسات العليا.
الوظائف والمسؤوليات
اشتغل توفيق الحكيم لفترة قصيرة بمكتب أحد المحامين، ثم عمل بعد عودته من باريس وكيلاً للنائب العام سنة 1930، عين بعدها مفتشًا للتحقيقات بوزارة المعارف عام 1934، ثم مديرًا لإدارة الموسيقى والمسرح بالوزارة عام 1937، التي استقال منها عام 1944.
المسار الأدبي
بدأ الكتابة باسمٍ مستعار “حسين توفيق”، ليبعد العار عن عائلته التي كانت تعتبر مثل معظم العائلات في ذلك الوقت أنّ الكتابة مسعىً تافه لا يليق بالعائلات المميزة، وكانت معظم هذه المسرحيات للمسرح العام. لامست تلك المسرحيات الغنائية والكوميدية جوانب اجتماعية وسياسية، فتطرقت مسرحية “الضيف الثقيل” إلى الروح القومية متزايدة الحماس في تلك الفترة في مصر إبان ثورة 1919.
وبدأ الحكيم يتردد على مسرح جورج أبيض، وهو يدرس في المرحلة لثانوية بالقاهرة، وشعر بانجذاب إلى الفن المسرحي، وخلال دراساته العليا بباريس اطلع على الأدب العالمي وبخاصة اليوناني والفرنسي، فاتجه إلى الأدب المسرحي والروائي، وانصرف عن دراسة القانون، فاستدعاه والده بعد ثلاث سنوات، دون أن يحصل على الدكتوراه.
عانى الحكيم من صدمةٍ ثقافيةٍ عكسية عندما أجبره والده على العودة من باريس إلى مصر. ونجد ذلك جليًا في حنينه إلى السنوات الجميلة التي قضاها في باريس.
صدرت مسرحيته الأولى “أهل الكهف” عام 1933، فاعتبرها النقاد بداية ظهور تيار ما يسمى بالمسرح الذهني (حدث ذهني يصعب تمثيله مسرحيًا).
كان الحكيم أول من استلهم في أعماله المسرحية موضوعات مستمدة من التراث المصري عبر عصوره المختلفة.
مراحل الكتابة عند الحكيم
مرت كتاباته بثلاث مراحل، اتسمت الأولى -حسب بعض النقاد- بشيء من الاضطراب، وفيها كتب مسرحية “أهل الكهف”، وقصة “عصفور من الشرق”، و”عودة الروح”.
وفي الثانية تمكن من الأداة اللغوية، وفيها كتب “شهرزاد”، و”الخروج من الجنة”، و”رصاصة في القلب”، و”الزمار”.
أما المرحلة الثالثة فاتسمت بتطور الكتابة الفنية، التي عكست قدرته علي صياغة الأفكار والمعاني بصورة جيدة، وفيها ظهرت مسرحيات “سر المنتحرة”، “نهر الجنون”، و”سلطان الظلام”.
وبالرغم من هذا العدد الكبير، قلةٌ منها يمكن تمثيلها على خشبة المسرح، فمسرحياته كُتبت لتُقرأ. حملت مسرحياته كمًّا هائلًا من الدلالات والرموز التي يمكن إسقاطها على الواقع العربي.
أعتبره الرئيس جمال عبدالناصر “الأب الروحي” لثورة يوليو/تموز 1952، بسبب قصته “عودة الروح” التي صدرت عام 1933، ولم يذكر أن عبد الناصر منع أي عمل لتوفيق الحكيم، حتى عندما أصدر “السلطان الحائر بين السيف والقانون” في عام 1959، و”بنك القلق” عام 1966، حيث انتقد النظام الناصري ودافع عن الديمقراطية. وصل الأمر أن عبد الناصر كان يستقبل الحكيم في أي وقت وبغير تحديد لموعد، وهو ما أكده الحكيم نفسه في جريدة الأهرام في 15 مارس 1965. بعد وفاة عبد الناصر عام 1970 وأثناء تأبينه سقط توفيق الحكيم مغمى عليه وهو يحاول تأبينه وبعد أن أفاق قال خطبة طويلة من ضمنها: “أعذرني يا جمال. القلم يرتعش في يدي. ليس من عادتي الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر. لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعًا عليك. لأن كل بيت فيه قطعة منك. لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك”.
لكن الحكيم هاجم التجربة الناصرية في كتابه “عودة الوعي” الذي صدر في عام 1972، واعتبر أن الشعب المصري عاش فيها فاقدًا للوعي.
في فبراير 1972 كتب بيده بيان المثقفين المؤيدين لحركة الطلاب، ووقّعه معه وقتذاك نجيب محفوظ. ساءت بعدها علاقة الحكيم مع محمد أنور السادات حيث قال السادات وقتذاك “رجل عجوز استبد به الخرف، يكتب بقلم يقطر بالحقد الأسود، إنها محنة أن رجل رفعته مصر لمكانته الأدبية إلى مستوى القمة ينحدر إلى الحضيض في أواخر عمره”. حاول بعدها محمد حسنين هيكل جمع الحكيم مع السادات ونجح بذلك بعد حريق مبنى الأوبرا.
أسلوبه في الكتابة
مزج توفيق الحكيم بين الرمزية والواقعية علي نحو فريد يتميز بالخيال والعمق دون تعقيد أو غموض. وأصبح هذا الاتجاه هو الذي يكون مسرحيات الحكيم بذلك المزاج الخاص والأسلوب المتميز الذي عرف به. ويتميز الرمز في أدب توفيق الحكيم بالوضوح وعدم المبالغة في الإغلاق أو الإغراق في الغموض؛ ففي أسطورة إيزيس التي استوحاها من كتاب الموتى فإن أشلاء أوزوريس الحية في الأسطورة هي مصر المتقطعة الأوصال التي تنتظر من يوحدها ويجمع أبناءها علي هدف واحد. و(عودة الروح) هي الشرارة التي أوقدتها الثورة المصرية، وهو في هذه القصة يعمد إلى دمج تاريخ حياته في الطفولة والصبا بتاريخ مصر، فيجمع بين الواقعية والرمزية معا على نحو جديد، وتتجلي مقدرة الحكيم الفنية في قدرته الفائقة على الإبداع وابتكار الشخصيات وتوظيف الأسطورة والتاريخ على نحو يتميز بالبراعة والإتقان، ويكشف عن مهارة تمرس وحسن اختيار للقالب الفني الذي يصب فيه إبداعه، سواء في القصة أو المسرحية، بالإضافة إلي تنوع مستويات الحوار لديه بما يناسب كل شخصية من شخصياته، ويتفق مع مستواها الفكري والاجتماعي؛ وهو ما يشهد بتمكنه ووعيه. ويمتاز أسلوب توفيق الحكيم بالدقة والتكثيف الشديد وحشد المعاني والدلالات والقدرة الفائقة علي التصوير؛ فهو يصف في جمل قليلة ما قد لا يبلغه غيره في صفحات طوال، سواء كان ذلك في رواياته أو مسرحياته. ويعتني الحكيم عناية فائقة بدقة تصوير المشاهد، وحيوية تجسيد الحركة، ووصف الجوانب الشعورية والانفعالات النفسية بعمق وإيحاء شديدين.
ساهم الحكيم في الكتابة في عمود الآداب في صحيفة الأهرام، وكتب العديد من التحليلات السياسية والانتقادات اللاذعة التي انتشرت بشكلٍ واسع عبر العالم العربي.
تطرقت بعض مسرحياته الأولى إلى الأسئلة المتعلّقة بتحرر المرأة، وكانت مسرحيته “المرأة الجديدة” نوعًا من المحاكاة الساخرة للحركة المتصاعدة التي كان قائدها “قاسم أمين”. وعُرف الحكيم بعد هذه المسرحية وغيرها من المسرحيات الجدلية بأنّه عدو المرأة، وحاول طيلة حياته أن يزيل هذ الوصمة التي أضحت من العلامات المميزة له، لكنّه بقي وبالرغم من كل هذا كاتبًا محبوبًا وشخصيةً مرموقةً في العالم العربي تركت تأثيرها في الدراما العربية إلى يومنا هذا.
بقيت المسرحيات العربية في المسارح المصرية وخاصة الغنائية منها حتى عشرينيات القرن الماضي تُلقى باللغة الفصيحة، وهنا كان السؤال الأكبر الذي طرحه، لماذا لا تكون هذه المسرحيات باللغة العامية.
واستمرت مسرحياته الفلسفية من أمثال “شهرزاد والسلطان الحائر” بالنجاح حتى أنّها تعتبر من كلاسيكيات المسرح المصري، وكتب الحكيم أكثر من 50 مسرحية ليكون بذلك مؤسس الدراما العربية الحديثة.
الأوسمة والجوائز
حصل الحكيم على قلادة الجمهورية من الرئيس جمال عبد الناصر عام 1958، ونال جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1960، ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في العام نفسه.
الوفاة
توفي توفيق الحكيم يوم 26 يوليو/تموز 1987 في القاهرة عن عمر يناهز 89 عامًا.