بحر الجحيم …!

 

بِقَلَم ألعَميد مُنْذِر ألأيوبي *

خط مفتوح لزوارق مثقوبة او تكاد يرسمه الفقراء بين شمال لُبنان و جزيرة قبرص بالتوازي مع الممر الجوي Flight Path الذي يربط مطاري بيروت و لارنكا المستخدم مِن رجال أعمال و اغنياء لبنانيون يسوحون بين شواطيء و علب ليل الجزيرة الجارة خلال عطل نهاية الاسبوع. جوهرة المتوسط السياحية المفعمة بالحيوية يفصلنا عنها 180 ميلآ اي حوالي 200 km تقريبآ تستغرق الرحلة بين الشاطئين المتقابلين “النقيضين بيئةً
و نظافة” عَبرَ اليخوت الفارهة 4 ساعات في حين تحتاج القوارب المزدحمة بالمهاجرين و اللاجئين الى اكثر مِن ثماني ساعات هذا ان لَم تتوه في عرض البحر فلا تجد برآ ترسو اليه بانتظار انقاذ مِن خفر السواحل او سفينة عابرة ما ..!
منذ تلاشي ثورة 17 تشرين و ما تلاها مِن انهيار في قيمة النقد الوطني و ملامسة الفقر نصف الشعب اللبناني دون اية معالجات ناجعة لا بَل وسط لا مبالاة و فشل حكومي في الاداء مع ارتفاع جنوني في اسعار المواد الغذائية و تسيد البطالة اضافة الى تَدمير ثلث العاصمة يوم 4 آب المشؤوم بدا الوطن الحزين عَلى حافة الزوال إذ فقد المواطنين ايمانهم بدولتهم و صدق مَن أئتمنوا عَلى أموالهم و ارزاقهم و مستقبل ابنائهم ؛ كانت المشهدية الاكثر قتامة في المدينة الحبيبة طرابلس حيث اعلنت نسب مروعة عن حجم الفقر داخل احيائها و أزقتها تجاوزت في بعض مناطقها ال 70% كما عَمَت البطالة بين شبانها و عائلاتها فبلغت ال 50% أو يزيد في واقع اجتماعي كارثي مع انعدام الرعاية الاجتماعية و التغطية الصحية ما خلا بعض مبادرات مِن منظمات و جمعيات دولية او اهلية عَلى تعددها قاصرة عن أنقاذ بعد فاقة ..!
المدينة العظيمة طرابلس بأهاليها و مجتمعها و تاريخها “كوسموبوليتية” بإمتياز Cosmopolitanism محط رحال و مرسى بحري أساسي رابض عَلى شواطيء شرق المتوسط في قلعتها “ريمون دي سان جيل” و آثارها و أسواقها تقرأ الكون مِن بداياته ، يتيمة هي منذ زمن لا صاحب لها و لا قائد حتى أغنياؤها تمردوا عليها و جحدوا بها  دون حياء ..! شد الكثيرون رحالهم الى البعيد إذ ادركوا الواقع المميت فتجرعوا سم الهجرة بعد ان خوت البطون و عزت الكرامات في مسعى يائس لانقاذ عائلاتهم و تأمين رزقهم ، رفعت مراسي المراكب
و دارت محركاتها الصدئة لا لصيد السمك و ثمار البحر في موسمه بَل لنقل المهاجرين عائلاتً و شبانآ كما تدخلت مافيا منظمة “تجار الدم” امتهنت ألإتجار بالبشر Human Trafficing عَلى حاجة النزوح عبر استغلال و خداع و سطوٍ عمدٍ عَلى ما اقتصدوا مِن مال باللحم الحي لدفع ثمن النقل و الرحيل ..!
كان آخر الرحلات الاكثر مأساوية حضر الركاب في منتصف الليل مفترشين أرض بستان مهمل منتظرين ؛ أبحر المركب بهم مِن شاطيء بلدة المنية شمال طرابلس بعد ان قبض المهرب المبالغ المالية نقدآ او بضع مصاغٍ باقٍ مِن زواج او ولادة ، نفذ المازوت في عرض البحر اما قارب المؤونة الذي يفترض ان يرافقهم فكان سرابآ ؛ 40 شخصآ عَلى متن لا يتسع لعشرين ، ارتبكت ابرة البوصلة بين يدي بحار لَم يخوض العباب سابقآ تسعة ايام في يم البحر الابيض ابتلعت لجته اربعة قرابين عَلى مذبح لقمة العيش و الفقر كافر بينهم طفلان لَم يتحملا الجوع و العطش و شمس الصيف الحارقة ستة رموا انفسهم في المياه بَقي منهم اثنان عَلى قيد الحياة و فقد الاخرين .. طفت الجثث مع الفجر عَلى سطح مياه لامعة عثر على بعضها تعانق صخور الشاطيء بين السعديات و عكار في حنين قاتل الى المهد لَم يتأخر ..! شيعت المدينة في يوم جمعتها ضحاياها سادت اجواء حزن عميق و غضب عارم كان الرصاص الغزير لها معزوفة الموت تمزق سكون السماء ..!
في سياق مُتَصل ؛ رغم تكرار موجات الهجرة غير الشرعية من المدينة و ضواحيها الاكثر بؤسآ فقد فشلت معظمها في الوصول الى بر آمن في حين قضى بعض ركابها غرقآ كما دأبت السلطات القبرصية عَلى اعادة العشرات منهم ..! سقط الامر من يدهم سدت كل السبل في وجوههم لم يعد من خيار امامهم سوى البحر هربآ من لجة الفشل و الفساد مرتضين خيار الموت ان لم يعبروا الى العيش الكريم سبيلآ ..! خفر السواحل القبرصي كان رؤوفآ بهم انتشلهم هو “الذي أطعمهم مِن جوعٍ و آمنهم مِن خوف” -قريش ألآية 4- اعاد معظمهم الى الديار بعد استبدلت المراكب السيئة بأخرى و زودت بالمواد الغذائية و المياه كما رافقهم طاقم تمريضي و مترجمين في حين كانت السلطات اللبنانية تفتش عن ماء وجهها بين مد و جزر ..
اجتماع امني موسع عقد في القصر الجمهوري اول مِن امس برئاسة العماد ميشال عون خصص للبحث في “حوادث نقل اشخاص عبر المراكب بصورة غير شرعية من الشاطئ اللبناني في اتجاه قبرص، بعدما تزايدت هذه الحوادث ووقع فيها ضحايا من مختلف الاعمار”. (( كما اطلع المجتمعون على التقارير المتوافرة لدى الأجهزة العسكرية والأمنية والسبل الآيلة الى ضبط هذه المخالفات. كما تقرر تكليف المديرية العامة للأمن العام التواصل مع السلطات القبرصية لوضع الإجراءات اللازمة لاسترداد المهاجرين وتكثيف العمل المخابراتي والاستقصائي لكشف الشبكات التي تعمل على تهريب الأشخاص بطريقة غير شرعية..! كذلك تكثيف الدوريات البحرية ضمن الإمكانات المتوافرة والتنسيق مع قيادة “اليونيفيل” لكشف ورصد الزوارق ووضع اطار للتعاون في هذا الصدد. و القي عَلى عاتق قيادة الجيش العمل على انشاء مركز خاص للبحث والإنقاذ على ان يتم ذلك بالتعاون مع الوزارات المعنية، لا سيما وزارة الاشغال العامة والنقل. إضافة الى التعميم بواسطة وسائل الاعلام والبلديات والسلطات المحلية لمخاطر الهجرة غير الشرعية.))
ماذا عن المعالجات الاجتماعية و المعيشية .؟ “العين بصيرة و اليد قصيرة” اما الخيبة فمزدوجة دولة قاصرة و وجوه كالحة يائسة مِن الخلاص منهكة شفاه غزاها الملح في مشقة السفر و مغامرة الهروب ..
معلومات تشير الى تمكن عشرات اللبنانيين و السوريين مِن الوصول و البقاء في قبرص التركية كما ان العديد منهم محتجزون في مراكز مخصصة لايوائهم مؤقتآ ، كما يتوقع إزدياد غير مسبوق لمحاولات الهجرة عبر البحر خلال شهري تشرين القادمين قبل حلول فصل الشتاء فصقيع اوروبا أرحم مِن فقر و عوز عم أزقة مدينة منكوبة بمسؤوليها و سياسييها ..!
مِن جهة أُخرى ؛ صيانة قوارب الموت المتآكلة و الصدأة الراسية في مرافيء الصيادين شمالآ لا سيَما ميناء المدينة مستمرة تجري عَلى قدم و ساق في ظل ارتفاع اعداد العائلات الراغبة بالهجرة و الهرب مِن ذل الواقع المأساوي بعد ان ايقنوا ان الامل معدوم في أي تحسن او اصلاح إذ غرق البلد في هوة لا قَرار لها ، في حين ان حبل النجاة الفرنسي بات مشدودآ عَلى ما يَبدو أوهن مِن ألقدرة عَلى انتشاله و اعادته الى الحياة ..! أما مافيا المهربين و الاتجار بالبشر فلها شَأنٌ آخر هي عَلى مقصلة المادة 546 عقوبات لكنها حاجة للناس تؤمن لهم وسائل و سبل الفرار عَبرَ رحلات منتظمة بعيدة عن رقابة الاجهزة الامنية كما انها المرتكبة لجرم استدراجهم و خداعهم بقصد تهريبهم ناهيك التسبب بموتهم و السطو عَلى اموالهم في آن معآ ..!
مع غشاوة العشية في زوايا و زواريب المدينة يبدأ الشبان بالتحلق حول نرجيلة و كباية شاي حتى فجر يبان فيه الخيط الابيض مِن الاسود ، الكل يرغب في خوض تجربة الفرار بحرآ مِن واقع مزرٍ هُم مِن اتقنوا تبادل الرصاص بين منطقتي التبانة و جبل محسن في خدمة مأجورة لأجهزة أمنية و استخباراتية محلية و اقليمية أو لسياسيين متعددي الولاءات بإستثناء ما خَصَ الوطن ..!
أما عَلى مرمح الواقع الجيوسياسي للإقليم فتمارس تركيا ابتزازآ وقحآ عَلى الاتحاد الاوروبي عَبرَ فتحها المسارب الغير شرعية البرية و البحرية لعبور موجات المهاجرين و النازحين مِن سوريين و جنسيات اخرى الى اوروبا بهدف دفع دول اللجوء للضغط عَلى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لثنيه عن تدخله في لُبنان بالتالي افشال مبادرته لحل تعقيدات الازمة اللبنانية في خطواتها الاولى تسهيل تأليف حكومة الرئيس مصطفى اديب المرتجاة و إذ ترتكز ألإستراتيجية التركية حاليآ على التمدد في الاقليم حيث حقول غاز شرق المتوسط و المنابع النفطية الليبية بالتوازي مع تهديدها المصالح الفرنسية الى حد المواجهة العسكرية فإن الهجرة الطرابلسية خارجة عن مؤثرات و متغيرات الاقليم هي بكل بساطة مرتبطة بالواقع المعيشي المزري
و الاقتصادي السيء بعد ان ضاقت فُسحَة الامل توق لحياة كريمة افضل لا مجال لاستغلال شبانها او استخدامهم مِن قبل الغرف السوداء التخريبية النشطة فهؤلاء اصبحوا في وادٍ آخر “سَيان لديهم الموت هنا
او هناك” هو موسم الهجرة دون عودة إلى قبرص اولآ و السواحل الايطالية و اليونانية تاليآ ..!
خِتامَآ ؛ دعي ب البحر الابيض المتوسط لتوسطه القارات الثلاث تياراته البحرية دوامية “سيكلونية” Cyclonic تجري عكس عقارب الساعة ؛ سمي في الكتاب المقدس “ألبحر الكبير”.. من جحيم الفقر الذي استوطن مدينتهم تبحر قواربهم المشلعة في بحر الجحيم .. يَقولون قبل إبحارهم : “السّفُن آمِنَة عِندَمَا تَكُون رَاسِيَة عَلَى المَوَانِئ لكنها لَم تُصنَع لِهَذَا ، انطَلِق إلَى البَحرِ ففي صخب امواجه رأفة تفوق بني البشر”..!
————
بيروت في 25.09.2020