إنهيار وطن (1) … موت لبنان المحتوم ولد من رحم نشأته

 

 

بقلم : د. غسان الخالد*

 

(المقال الاول ضمن سسلة مقالات “انهيار وطن ” يكتبها الدكتور غسان الخالد وتنشر حصراً في جريدة “الدنيا نيوز” الالكترونية)

بات من المؤكد تقريبا أن لبنان كدولة ذاهب إلى “الانهيار المحتوم” وفق الكثير من المؤشرات التي باتت تطفو على سطح الأحداث. ومن الخطأ اعتبار هذا الانهيار لحظويا، او ابن لحظته كما يقال. ذلك أن المراقب لتاريخ نشأة الكيان اللبناني يعرف ان انهياره ولد من رحم النشأة، وان توالي الأحداث منذ عهد الرئيس شمعون، ومرورا بالأحداث مع منظمة التحرير، وصولا إلى الحرب الأهلية، ورغم ارتباط معظم هذه الأحداث بالأوضاع الإقليمية والدولية، كحلف بغداد خلال فترة حكم الرئيس شمعون وإلاحداث مع منظمة التحرير بعيد ما نسميه أيلول الأسود في الأردن، وربما قبله أيضا، وصولا إلى الحرب الأهلية، كانت مؤشرات انهيار لبنان تتدحرج ككرة الثلج وتكبر شيئآ فشيئاً. سأحاول تتبع مؤشرات هذا الانهيار، وصولا إلى الوضع الذي نحن عليه الآن. ومن النافل القول إن هذه المؤشرات متعددة المجالات وهي تتوزع ما بين الفكر والاقتصاد والسياسة.
اولا:الانهيار الفكري.
مر لبنان منذ نشأته ومع إعلان الجنرال غورو دولة لبنان الكبير بأزمة وجودية تمثلت في عدم تقبل فريق كبير من المحافظات التي ضمت إلى جبل لبنان بفكرة الكيان وهو الذي كان يعيش في ظل دولة خلافة، كما كان يعيش الفريق الآخر بنوع من الاستقلال الذاتي ضمن دول الخلافات منذ العصر الأموي وانتهاء بالحقبة العثمانية.
استمر الخلاف الفكري بين فريقين، أحدهما يدعو إلى اعتبار لبنان جزء من الأمة العربية، واخر يدعو إلى اعتبار لبنان ذو وجه عربي. واستمر الخلاف الفكري قائما حتى بداية الحرب الأهلية وخلالها، إلى درجة تجذر هذا الخلاف، وقد عبر عن هذا التجذر بالتواصل مع الكيان الصهيوني الذي أدى إلى اجتياح لبنان واحتلال العاصمة بيروت، وما رافق ذلك من تداعيات وتفاصيل لم تفض الا إلى مزيد من الانقسام الفكري. وقد وصفت حالة لبنان في النشأة بما اسميته في كتابي البدوقراطية باللحظات الملتبسة. ولم يكن الطائف الا مرحلة استقرار أمني وسياسي برعاية إقليمية ودولية، سرعان ما اهتزت هذه الرعاية بعيد اغتيال الرئيس الحريري، وشهد الانقسام الفكري مزيدا من التجذر وصولا إلى عدوان تموز وما تبعه من تداعيات ومواقف سياسية كرست هذا التجذر في الانقسام الفكري حول طبيعة لبنان.
لكن الحقيقة أن ما يشهده لبنان الان من انقسام فكري لم يسبق أن أخذ هذا المنحى مطلقا. لقد وصل الأمر باللبنانيين إلى اعتبار العدو الصهيوني ارحم من هذه الطبقة السياسية، وطبعا بصرف النظر عن موقفي من هذه الطبقة السياسية. لكن القول إن الكيان الصهيوني لم يجوعنا كما جوعتنا الطبقة السياسية، والمناداة بانتداب فرنسي جديد، كما طالب العديد من ما يسمى منظمات المجتمع المدني، إضافة إلى قوي سياسية ذات بعد طائفي ومذهبي، وصولا إلى تحميل قوة سياسية تمتلك فائضا من القوة العسكرية ساهمت بشكل فعال في ردع العدوان عن لبنان، كل لبنان، وتحاول الان تحقيق توازن ردع مع العدو، رغم اعتقادي بأن التوازن الردعي قد تحقق، ووضع هذه القوة السياسية بالخانة ذاتها مع العدو، لهو أكبر مؤشر فكري على انهيار لبنان.

لا يمكن بالطبع تجاهل وصول أمراء الحرب إلى السلطة بعيد الطائف، وتحالفها مع البرجوازية الحريرية. ولا يمكن مطلقا، تجاهل الفساد الذي استشرى نتيجة هذا التحالف واوصلنا إلى ما نحن عليه. لكن من المجحف تحميل فريق سياسي واحد نتيجة ما وصلنا إليه، كما أنه من المجحف وغير الطبيعي سكوت السلطة عن الدعوات إلى التطبيع بشكل أو بآخر مع العدو الصهيوني تحت هذه الذريعة أو تلك.
أمور عدة حصلت على هذا الصعيد، منها على سبيل المثال لا الحصر دعوة إحدى الجامعات الخاصة طلابها لإجراء فترة التدريب، ستاج، في دولة الكيان الصهيوني، من غير أن تحرك السلطة السياسية ساكناً في هذا المجال. وبالطبع فإن الدعوة إلى المطالبة بعودة العملاء (الذين تطوعوا بجيش مهمته حماية قوات العدو الاسرائيلي إبان احتلاله للبنان ورحلوا معه بعد اندحاره) وإعادة حقوقهم المدنية لا تقل أهمية عن المثال الأول، وكذلك مقارنة العملاء مع العدو، بالبعض الذي تعاطى مع الوجود السوري الشقيق واعتبار سوريا دولة محتلة كما الكيان الصهيوني!.
من يتابع مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام يدرك جيدا المستوى المنحط الذي وصل إليه بعض اللبنانيين في مثل هذه الرؤى، كما يدرك جيدا، خطورة هذا الانقسام الفكري، الذي لم يعد شكليا أو سطحيا، بل بات الخلاف ينم عن شرخ عامودي، يتأطر فكرياً ويتجذر ويتعمق أكثر فأكثر، خصوصاً مع ارتباطه بالمواقف السياسية أفرادا كانوا ام جماعات. فالفكر سلاح ذو حدين، ويبدو أن اللبنانيين قد اختاروا طوعا الحد الذي سيشكل سببا من أسباب انهيار الدولة وبالتالي انهيار لبنان الكيان.