الهوية مأوى وليست قيدًا… والجذور وشمٌ لا تزيله المسافات

بقلم د. ميشلين بيطار *
يحدث أن ألتقط ملامح مدينتي من لهجة أحدهم في العاصمة. أسأل: “انت من وين..؟”
فيجيب متردّدًا:
“الأصل الأصل… من طرابلس… بس ما منروح كتير.”..
دهشت دوماً من هذا الجواب..! كأن الهوية تُقال همسًا، وكأن الأصل عبء يخشاه صاحبه.
فيه شيء يشبه الاعتذار غير المعلن، أو الخوف من نافذة تفتح على الذات..
حاولت أن أفهم هذا الابتعاد الخفيف الذي يمرّ كأنه لا يعني شيئًا، بينما يحمل في داخله تعبًا كبيرًا. فكم يشقّ على الإنسان أن يبتعد عن مكان يشبه طفولته، أو ينكر جذوره كأنها صفحة يمكن تمزيقها.
الهروب من الأصل ليس مجرّد قرار…. إنه وجع صامت، يُرهق الروح ويزرع مسافة بين الفرد ونفسه.

قد يشعر المرء بأن هويته ثقيلة عليه، أو أن ثقافته لا تلائم صورة يحاول رسمها لنفسه، وهنا يبدأ الانفصال:
ميلٌ إلى التخفّي، إلى محو التفاصيل، إلى التشبّه بغيره كي ينجو من صراع داخلي لا يهدأ.. لكن داخله يظلّ معلّقًا بين قدَمِ لا تريد العودة وقلبٍ لم يغادر يومًا.
الهوية ليست قيدًا، بل مأوى. والجذور لا تنكر ، هي وشمٌ لا تزيله المسافات، وذاكرةٌ تضيء ولو تحت غبار السنين.
من يخلع جلده يكتشف، عاجلًا أو آجلًا، أنه بلا ظل. عند هذه العتبة يظهر التصالح:
لحظة يلين فيها القلب، ويتوقف فيها الإنسان عن محاكمة نفسه.
تصالحٌ لا يعني عودة القسرية، ولا استبدال ذاكرة، بل نظرة جديدة تُعيد ترتيب العلاقة بالمكان وبالأهل والأصل.
إنه قبول هادئ يعيد للروح توازنها، ويمنح الانتماء معنى أعمق من مجرد عنوان على الهوية.
وحين يحدث ذلك، يهدأ الصراع، وتستكين المسافة، ويشعر الفرد أنه عاد إلى مكان لم يغادره يومًا. مكان في داخله، لا على الخارطة.
أمّا السلام فلا يولد من الهرب، بل من أن نقف أخيرًا أمام مرآتنا بلا خوف، ونقول:
هذا أنا و هذا مكاني…!
———————————
*طبيبة وكاتبة لبنانية
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.