المأساة اللبنانية في حوار مع أفلاطون وأرسطو

توفيق شومان*

ليس من السهل ، التفاؤل بقدرة الطبقة السياسية اللبنانية على إخراج اللبنانيين من كارثتهم المستفحلة منذ عام 2019، فالإنهيار المالي والإقتصادي ، المصحوب مع انهيار سياسي وأخلاقي وثقافي ، يخفض منسوب الآمال بالإنعتاق من واقع الحال ، ذلك أن مجموعة العوامل المؤدية إلى البلاء المقيم ، لا يبدو أنها في طريق الإنزياح ، في ظل مراوحتها على نفسها ، وفي ظل ” عقيدة الإصرار ” التي تتشبث بها الطبقة السياسية ، وتحول دون رؤيتها لفواحش أدائها في السلطة والحكم ، فتذهب إلى انتهاج آليات العمل ومنظومة الأفكار اللتين سبقتا المأساة اللبنانية ، وكأنما لا كارثة حدثت ولا تهلكة وقعت .
ـ كيف وصلنا إلى هنا ؟ هذا السؤال يحيل مأساة اللبنانيين إلى أول السياسة ، وأول السياسة كان في بلاد الإغريق ، وبالتحديد مع الثلاثي الذهبي : سقراط ـ أفلاطون ـ أرسطو ، وعلى هذا الثلاثي طرحت أوائل أسئلة السياسة عبر هذا الحوار الإفتراضي ، بادئا مع ” المعلم الأول ” .
ـ مرة أخرى يا أرسطو : لماذا وصلنا إلى هنا ؟
ـ أرسطو : لا يبدو في لبنان أنهم قرؤوا ما قلته في كتابي ” السياسيات ” : ” الفكر يشيخ كما يشيخ الجسد “.
ـ هل توافق يا أفلاطون على ما قاله أرسطو ؟
ـ أفلاطون : بالرغم من أن أرسطو كان أكثر النقاد قسوة لكتابي ” الجمهورية ” ، ولكتابي الآخر ” القوانين ” ، إلا أني أوافقه الرأي ، وقد قلت في ” القوانين ” : إن التجديد غالبا ما تفرضه المأساة ” ، ولكن كما علمت أن الأعيان والحكام في بلدكم ، لم يأخذوا بالتجديد والإقلاع عن القديم ، مع أن مأساتكم تشبه التراجيدية الإغريقية التي تحدث عنها شعراؤنا وأدباؤنا .
ـ فعلا هي مأساة أعادت اللبنانيين إلى ما كتبتموه وخلدتموه ، ولكن ما السبب يا أرسطو ؟
ـ أرسطو : الواضح في بلدكم ” أن الشطر الأكبر من القوانين يميل نحو الأغنياء ، و مع الوقت تكونت عناصر الشر حقيقي ، ومع الشر تكونت الخيرات الكاذبة ، ومع الإثنين ، طمع الأغنياء أكثر وزاد نهمهم أكثر “.
ـ منطق فلسفي يا أرسطو ، ومثل هذا المنطق قال به فيلسوف جاء بعدك بمئات السنين ، هو جان جاك روسو ، إذ يقول في كتابه ” مقالة في العلوم والفنون ” : ” ينبغي أن يكون شغل الحكومات الشاغل الوقاية من حصول تفاوت مفرط بين الثروات ، ليس بإنتزاع الثروات من اصحابها ، ولكن بمنع وسائل تكديسها ” ، ما رأيك يا أفلاطون ؟
ـ لم أسمع بفيلسوفك ذاك ، لكني سبقته قرونا بقولي : ” إن جعل الثروة أساس الجدارة هو إثم فظيع ، وعلى أساس هذا الإثم تنقسم المدينة الى قسمين : غني وفقير ، ومع هذا الإنقسام تسود البغضاء والكراهية بين سكان المدينة “.
ـ بالفعل … بالفعل هذا ما حدث عندنا ، ولعلي مضطر أن استعين مرة ثانية بجان جاك روسو في معرض نبذه لما يسميه البعض ” فضيلة الثروة ” فهو يقول : ” أشد المخاطر على الدولة حين يُقاس الإجلال بالأموال وتُباع الفضائل بالدراهم ” ، للأسف هذا ما نعاني منه ياأفلاطون… ماذا تضيف إلى ما سمعته ؟
ـ افلاطون : كل الفلاسفة الذين جاؤوا بعدي ، إما أخذوا من أفكاري أو أنها تركت تأثيراتها عليهم رغم نقدهم لها ، ففي كتاب ” الجمهورية ” قلت بالحرف والحروف نقلا عن سقراط : ” حين يحتكر الأغنياء الحكم ، لا يعود للفقير حظ أو نصيب ، فالخير والفضيلة في هذا النوع من الحكم هما في جمع الثروة ، وهؤلاء الأغنياء يكتشفون طرقا خاصة للإنفاق ، فينبذون الشرائع ويدوسون على الأحكام ، هم وأزواجهم ، وهؤلاء أيضا يغدو لهم ثلاثة أعمال : الأول : الحكم بقوة السلاح ، الثاني : الإفراط في جمع الثروة ، الثالث : مراقبة كل واحد منهم للآخر بعين الغيرة والريبة “.
ـ بالضبط هذا ما يجري عندنا …
ـ أفلاطون : سأزيدك أكثر وأكثر … طبقة الحكام التي ذكرتها قبل قليل ، قلت عنها في ” الجمهورية ” نقلا عن سقراط : ” قد يختلف أعيان المدينة ويتنازعون ، ولكن هذا النزاع ينتهي بالتفاهم المتبادل ، والإتفاق على اقتسام الأراضي والبيوت واستعباد أصحابها السالفين ، وتحويلهم إلى طبقة سفلى ، عبيدا وأرقاء ، للخدمة في الحرب والدفاع عن سلامة أسيادهم ” .
ـ كأنك حي بيننا يا أفلاطون … شهادتك تصدع الرؤوس والعقول … لن أسألك يا أرسطو … لك حرية القول والتعقيب …
ـ أرسطو : أوافق على ما قاله أفلاطون ، وأزيد عليه ، أن ما يحدث عندكم في لبنان ، أدى بلا شك إلى تلاشي الطبقة الوسطى ، وكما قلت في ” السياسيات ” : ” إن اتساع الطبقة الوسطى يجعل نظام الحكم ثابتا ، بل يتحول إلى أكثر الأنظمة السياسية رسوخا وثباتا ، بينما تضطرب الأنظمة السياسية حين تكون الطبقة الوسطى ضعيفة أو شيئا لا يُعتد به قطعا “.
ـ هذا واقع حالنا يا أرسطو … ولكن الطبقة السياسية اللبنانية ، منذ فترة ، تكثر الوعود وتطلق سراح القول بخروج قريب مما نحن عليه ؟
ـ أرسطو : أشك بذلك ، لأن في لبنان مجموعة من الحكام ، لكل واحد منهم لغته ، وأبجديته ، وتفسيره للقوانين ، وتفسيره أيضا للمفردات والكلمات ، وأنا حين انتقدت ما قاله أفلاطون عن مشاعية النساء والأملاك ، توقفت عند مفردة ” الجميع ” وقلت : ” إن لفظة جميع ملتبسة ، ذلك أن الكل سيقول هذا إبني او هذه إمرأتي ، وكذلك عن الأملاك وعن كل ما يقع في حوزة البشر ، وأما في الواقع ، فإن الذين يجعلون النساء والأبناء والأملاك مشاعا ، فهم لا يقولون إن النساء والأبناء والأملاك يخصونهم ، بل يقولون كلهم لهم ، ولكن لا كل بمفرده ، وهنا يتضح أن لفظة الجميع تعمية لما فيها من لبس ومن إدخال للكلام في أقيسة مغالطة “.
ـ فظيع هذا التفسير يا أرسطو ، وقد استحضرت ذاكرتي قولا مشابها للفيلسوف الصيني كونفوشيوس ، فقد قال : ” إذا لم تقع الأسماء على مسمياتها وقع الخلط في اللغة ، وإذا وقع الخلط في اللغة ، وقع الخلط في المعنى ، وإذا وقع الخلط في المعنى وقع الخلط في النظام ، وإذا تعددت المعاني فسدت المعاني ، وإذا فسدت المعاني فسد النظام ، ولو غدوت حاكما لعملت على إعادة كل مسمى إلى إسمه الحقيقي ” ، … هل أنت من أصحاب هذا الرأي يا أفلاطون ؟
ـ أفلاطون : كيف لا أكون من أصحاب هذا الرأي وأنا القائل في كتاب ” القوانين ” : ” أصلح الدول التي يتكلم فيها المواطنون كلمات ذات معنى واحد ” .
ـ عندنا يا سادة ، لا يعرفون المعنى الواحد ، ولا اللغة الواحدة ، ولا اللسان الواحد ، ومع ذلك يغدقون بالوعود ويغرقون الناس بها …
ـ أفلاطون : أنا كتبت عن أمثال مأساتكم وقلت : ” إنهم يتلاعبون بالكلام بأسلوب من أساليب المآسي ، فيوردونه في صورة الجد والرصانة ، وهم يهزؤن بنا كأننا أطفال لديهم “.
ـ بعد كل هذا الذي قلتماه ، هل يعني أننا في دولة فاشلة … أصحيح هذا المصطلح يا أرسطو ؟
ـ أرسطو : أكثر من فاشلة ، فحين يطاح بالقوانين والشرائع ، تشيع الفوضى ، ومن يقرأ كتابي ” السياسيات لا بد أن يتوقف عند قولي : ” يحاول الزعماء والطامعون في السيادة والزعامة ، تضليل الشعب ، فيسلطوه على الشرائع ، ويمعنون في مدالسة الشعب وتضليله ، طمعا في الفوز بإختيار الشعب لهم ” ، أي يحرضونه على الخروج عن القوانين ، فتسود الدهماء ويعم الإضطراب ، وعلى ما أظن هذا الذي يجري عندكم .
ـ هذا بالضبط ما يجري ، وهو أمر يدفع إلى اقتباس مصطلح ” الحرية السلبية ” ، العائد لفيلسوف ظهر بعدك بأكثر من ألف عام ، وهو هيغل الألماني حيث يقول : ” هناك من يضع القوانين ولا يلتزم بها ، لأنها تحد من إرادته ، وأمام هذه الإرادة الجامحة والمتفلتة يتم تدمير كل النظم والمؤسسات ، وعلى أنقاض هذا التدمير ولأجل تحقيق الإرادة يبرز مصطلح الإقتناع ، ولكن من بإمكانه أن يفسر الإقتناع ؟ ” ، هل لديك تفسير يا أرسطو ؟
ـ أرسطو : حين تكون السياسة على هذا النحو ” تصبح غايتها التحكم والتجبر والقهر ” .
ـ نكمل من مظاهر الدولة الفاشلة ؟
ـ أرسطو : إن أول مظاهر الدولة الفاشلة ، يكمن في ” التهاون مع الصغائر ، فحينذاك تنحرف القوانين المرعية عن أصلها انحرافا بليغا ، ولا يبلغ هذا الإنحراف مبلغه ، إلا عند الإستخفاف بالأمور الطفيفة “.
ـ في كتابيك ” الجمهورية و ” القوانين ” تحدثت يا أفلاطون عن أنواع الأنظمة السياسية وأشكالها ، نقدتها ونقضتها كلها ما عدا ” جمهوريتك ” بطبيعة الحال ، هل من مقارنة بين ” دولتنا ” الفاشلة كما وصفها أرسطو وبين الدول المنقودة والمنقوضة؟
ـ أفلاطون : يحلو لي الرجوع إلى ما قاله أرسطو عن تضليل الشعب ، وتسليطه على القوانين ، فالسياسيون الذي يسلكون هذا السبيل ، يهدفون إلى إبقاء الشعب داخل أسوار الفوضى ، و هؤلاء ” السياسيون الذين لا يمنحون الشعب سوى القلاع والأسوار ، هم مثل من يروض الخيول الجامحة ، فيفشل بترويضها ثم يتركها أكثر شراسة مما كانت عليه ” ، وهذا ما يمكن اعتباره قمة الفشل والخطر معا ، ذلك أن دفع الناس إلى استخدام الفوضى تجاه الخصم ، سرعان ما ينقلب باستخدام الفوضى ذاتها ضد ولي الأمر .
ـ هذه مشاهدنا اللبنانية اليومية يا أفلاطون ، واسمح لي الآن أن اتوجه إلى أرسطو لأسأله أيضا عن مظاهر الدولة الفاشلة وأسباب انحلال الدول ؟
ـ أرسطو : أنا ذكرت العديد من أسباب تحلل الدول ، وأهم تلك الأسباب ما ينشأ من خلافات بين الطبقة الحاكمة ، ” ففي سركوزا ، حين اختلف الحكام استعان كل واحد منهم بقسم من الأهالي ، فأحدثوا الفتنة في الدولة كلها ، وفي هستيئا ، اختلفوا على الأرزاق ، وذهب كل من المختلفين إلى الإستعانة بقسم من الناس ، وقد يقع الخلاف بين الحكام بسبب ما يعتبره أحدهم إهانة موجهة ضده ” ، وكما رأيت استجلبت الخصومات الشرور الكبرى ، فالخصومات بين طبقة الحكم أصل تلك الشرور وكما قلت أنا مستعينا بالمثل اليوناني الشهير: ” بدء الشيء نصف جملته “.
ـ لو تنظر يا أرسطو إلى حالنا ، حيث أشكال الخصومات بين الطبقة الحاكمة لا تنتهي ويتناسل بعضها من بعض ، ومنذ سنوات أدخل الحكام عندنا أصنافا جديدة إلى خصوماتهم ، أخطرها الشتم والسباب ، ومع ذلك يقولون إنهم زعماء الشعب ويدافعون عن الشعب…
ـ أرسطو : منذ أكثر من ألف سنة قلت بجملة واحدة وبمعنى واحد لا لبس فيه : ” أكثر الطغاة تدرجوا من زعامة الشعب الى حكم الطغيان “.
ـ طالما انعطفت بكلامك إلى هذا المنعطف ، هل تتكرم بالإجابة على سؤال ما وظيفة الدولة وما وظيفة حكام الدولة ؟
ـ أرسطو : سألخص لك ذلك بإيجاز شديد وأقول إن وظيفة الدولة تقوم على هذه العناصر : ” السهر على ضروريات المعاش ـ العناية بالأسواق ـ تنظيم اعمال التجارة ـ ترميم المنازل ـ تعبيد الطرقات ـ حماية وصيانة حدود العلاقة بين الناس وممتلكاتهم حتى لا تكثر الشكاوى ـ رعاية النساء ـ العناية بالأطفال ـ التعليم ـ وأهم وظائف الدولة على الإطلاق هي وظيفة السلطة القضائية “.
ـ كل ذلك غير موجود عندنا ، وهذا ما يطرح سؤالا خطيرا حول وجوب طاعة الحكام إذا لم يقوموا بوظائفهم ، وهنا بالضبط سأستعين بفيلسوف لم يعش في زمانك يا أفلاطون ، هو الإنكليزي توماس هوبز ، حيث يقول : ” إن طاعة الحكام واجبة حين يحافظون على أمن الناس وأموالهم ، وحين لا يتوافر ذلك ، تصبح الطاعة غير واجبة ” ، ماذا تقول يا أفلاطون ؟
ـ أفلاطون : واضح انكم تفتقدون العدالة ، وواضح أن طبقة الحكام عندكم لا تعرف من السياسة شيئا ، ” وما السياسة إلا فن يجب ان يتوخى مصلحة المحكوم دون الحُكم ، مثل الطبيب يتوخى مصلحة المريض ، والسائس يتوخى مصلحة الخيول وقبطان السفينة يتوخى مصلحة ركاب السفينة ” .
ـ أتدري يا أفلاطون ماذا حل بسفينتنا ؟
ـ أفلاطون : طبعا أدري … ولكن لك ” أن تتخيل أن من يقود السفينة هم أهل الثروة والجاه وليس أهل الخبرة والجدارة ” ، ألا تغرق السفينة ؟
ـ بالفعل … هي تغرق …
ـ أفلاطون : هذا ما يجري عندكم …. سفينتكم تغرق لأن من يقود سفينتكم ليسوا من أهل الخبرة والجدارة .
……………………………………………………………………

*اعلامي ، كاتب ومحلل سياسي