اللامركزية المالية وقناع التقسيم

خاص – “الدنيا نيوز”

بقلم : د غسان الخالد

اللامركزية المالية تعني التحقيق في جمع الإيرادات والانفاق على مستوى أدنى من الحكومة المركزية، مع الحفاظ على المسؤولية المالية المركزية. ذلك أن المركزية مرتبطة في الدولة العميقة بالوظيفة الاقتصادية للدولة.
بدأ الحديث عن اللامركزية المالية في ثمانينات القرن الماضي عندما اتجه الغرب نحو الليبرالية الاقتصادية الواسعة في اعقاب موجة خصخصة. ومع العولمة برزت توجهات أخرى هدفت إلى انعاش الهويات المحلية بعد فشلت الحكومات في تحقيق الإنماء المتوازن على صعيد الدولة، ومع تحذير السلطة المركزية وربط مصالح الناس بالنخب السلطوية مباشرة بشكل كبير، بمعنى آخر ازدادت مركزية السلطة في الدولة العميقة، كما في الدولة الرخوة، وهو ما نتج عنه فشلا كبيرا في إدارة الدولة لمؤسساتها… الذي استتبع فسادا مستشريا داخل هذه المؤسسات، كما في نخب السلطة.
ثمة الكثير من الدراسات التي تناولت اللامركزية إن كانت إدارية أو مالية أو سياسية. ولا يمكن الفصل بين أنواع اللامركزية وخصوصا، لا يمكن الفصل بين اللامركزية الإدارية والمالية، وإن كنا في لبنان ونظرا للانقسام العامودي في الفكر السياسي نشهد انقسامات عامودي أيضا في التحليل والاجتهاد القانونيين.
أن التجارب في تطبيق اللامركزية المالية في دول العالم قد بينت اختلافات كبيرة في نتائجها الفعلية. ذلك أن خسارة السلطة المركزية لبعض نفوذها أدى بشكل أو بآخر إلى التراخي في تطبيق القانون، في علاقة جدلية تقوم على معادلة أن القدرة على فرض القانون تتناقص كلما ابتعدنا عن المركز وصولا إلى أصغر مجتمع محلي.من هنا يصح القول أن اللامركزية المالية ليست إيجابية بحد ذاتها بل بكيفية تصميمها بعناية مركزة لتوفير شروط نجاحها وأهمها معايير النجاح هو تطبيق القانون….
من المفيد الإشارة إلى أن اللامركزية المالية التي كان الهدف منها إنهاء التوتر أو خفضه بين الأقليات على انواعها وبين الحكومة المركزية، لم تصل إلى مبتغاها ولم يتحقق الهدف منها. ذلك أن اللامركزية المالية قد تثير حفيظة الأقليات. أضف إلى ذلك أن لا مركزية الإيرادات ولا مركزية الإنفاق كلاهما يغذي النزعات الانفصالية المتوالدة، اي ما ان ننتهي من تحقيق انفصال ما حتى نشهد انفصالا آخر أو دعوة له. والهدف من ذلك تحقيق المزيدمن الانتفاع من المزايا المفترضة من النظام الجديد.
في دراسة مهمة للكاتب احمد ابريهي علي لاحظ انه كلما كانت اللامركزية متجانسة اجتماعيا، فإن حصة الحكومات ما دون الوطنية مرتفعة. ويعطي أمثلة على ذلك منها على سبيل المثال لا الحصر فإن حصة الحكومات دون الوطنية هي ٤٢ بالمية في بيلاروسيا، في حين انها بلغت ٦ بالمية في سلوفاكيا. الأولى متجانسة اجتماعيا والثانية غير متجانسة.
اتفقت الدراسات بشكل عام على أن اللامركزية تؤدي حتما إلى الفدرلة بشكل أو بآخر، ودائما تحت شعار خفض التوتر بين الجماعات المشكلة للدولة المركزية،ومع ذلك لم تصل في التطبيق العملي إلى تحقيق هذا الهدف، ويمكن اخذ السودان كمثل على ذلك كما يمكن سوق أمثلة أخرى كدول سريلانكا والعراق ونيجيريا حيث اختلطت اللامركزية المالية فيها مع تقسيم عائدات النفط بين المركز والمناطق المنتجة.
من المفيد القول هنا أن معظم الدراسات التي تناولت اللامركزية المالية قد عبرت بشكل مقصود ام غير مقصود عن توجهات الكاتب كما في دراسة نوى نبيلة وبوجلال أنفال عن اللامركزية المالية في الجزائر، حيث يرون ان اللامركزية المالية تساعد في التنمية المحلية كما تساعد في رفع مستوى معيشة الفرد وزيادة نصيبه من الإنفاق، كما في تحسين الاستثمارات وتحسين الخدمات العامة.
لكن ووفقا لقراءاتي تبين لي أن كل الدراسات التي تناولت اللامركزية المالية في الكثير من دول العالم قد أكدت على أنها جاءت وفقاً لتلبية رغبات الأقليات الاثنية والدينية والعشائرية كما المذهبية الطائفية. من هنا يصبح التساؤل حول المطالبة باللامركزية الموسعة في لبنان مشروعا، والتساؤل هو حول ارتباط المطالبة به مع ما يحاك من مشاريع للمنطقة بشكل عام، بدءا من الحزام السني، والمثلث الشيعي، وانفصال الأقليات كالكرد والدروز…. وربما لاحقاً… العلويون…. وهكذا دواليك….
واذا كانت الغاية من تطبيق اللامركزية المالية هي إنهاء نزاعات اقلوية، او خفضها، فوفقا لما نلاحظه، ووفقا لما يجري في دول مجاورة، فإنها اي اللامركزية الإدارية والمالية ستكون عاملا مساعدا على تزكية التوتر وليس انهائه، وعلى إستمرار النزاع وليس حله،لا في لبنان ولا في غيره من الدول التي طبقت هذه اللامركزية، ذلك أن هذه اللامركزية جاءت معلبة ومغلفة وخارجة عن التبيئة، وأعتقد أنه هذا هو الهدف المطلوب وهذا هو ما تسعى لتحقيقه دول الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، لاستمرار قرصنتها للموارد الطبيعية إضافة إلى أهداف سياسية أخرى ليست خافية على أحد…