القوة الصاعدة…!

بقلم ألعميد منذر ألأيوبي*
يَنكَبُ كُثُر من الباحثين والمحللين الاستراتيجيين على دراسة وإستشراف مستقبل العلاقات الدولية وما سيرسو عليه النظام العالمي بعد أزمة وباء “كورونا” كما يعمدون إلى اجراء مراجعة تاريخية من منطلق “التاريخ يعيد نفسه” لأزمات حصلت في القرن العشرين وما قبل كانت إرتداداتها عظيمة وربما غيرت مجرى التاريخ سواء أوبئة عمت “طاعون الموت الأسود في القرن 13 – الانفلونزا الأسبانية في القرن 20” أو حروب كونية نشأت “الحربين العالميتين الأولى و الثانية” أو أزمات إقتصادية ومالية Financial Crisis “الكساد الكبير 1929 – أزمة أسعار النفط 1973” هزت الاقتصاد العالمي أو سياسية أسقطت أنظمة وفككت أحلاف “إنهيار الاتحاد السوفياتي – حلف وارسوا 1991” إذ فرضت كل منها تاليآ تحديات ضخمة عميقة وهامة إقتصادية، جيو سياسية، عسكرية واستراتيجية كما تسببت بتغييرات ديموغرافية وإجتماعية عمت العالم بأسره ..!
شكلت أزمة الوباء المستجد وسرعة انتشاره عابرآ حدود الدول والقارات اضافة إلى أعداد الضحايا التي فتك بها كذلك ارقام المصابين المتصاعدة يوميآ ضربة موجعة للإنسانية جمعاء إذ أرخت الجائحة pandemic بظلالها الثقيلة على معظمها بإستثناء قلة منها لا تتجاوز العشرات حتى ألآن كما شكلت تحديآ جديآ و ترددآ لكيفية المواجهة على صعيد علماء الفيروسات و الجراثيم و كذلك ألمختبرات ألعلمية الجادة في البحث عن الترياق Vaccines الناجح ، توازيآ فقد كشفت أيضآ عن مستوى ألهيكلية الصحية الهشة في ضآلة الإمكانات والتجهيزات الطبية، ألأدوية المناسبة، وسائل التعقيم والتطهير مما ضاعف عمق المعضلة ..!
بدا سكان البسيطة ال 9 مليار نسمة في حالة ذهول وهلع ، لم يتصور احد انه في القرن 21 يقف العلم والتكنولوجيات المتطورة على تماس مع فيروس يصعب هزمه و في حين لا تزال ألأبحاث مستمرة على قدم وساق فهي ظهرت قاصرة عن تحديد المدة الزمنية المتوقعة لكبح جماح الوباء على ألأقل إضافة إلى مرحلتي ألإحتواء والانتشار ثم الانتقال إلى مرحلة نجاح بروتوكولات العلاج و صولآ إلى إكتشاف تركيبة اللقاح المناسب ..!
من جهة أخرى ، في تداعيات هذه الأزمة الوبائية سواء خلالها أو إثر إنتهائها يمكن تلمس جملة وقائع ونتائج مرتقبة إذ ستكون الخسائر الاقتصادية والمالية هائلة كما ستتسع الأحقاد و الخصومات بين ألأمم (صراع القوميات Struggle Of Nationalities لا صدام الحضارات Clash Civilization ) وستنحو الأنظمة السياسية في الكثير من الدول نحو تسيد الأحزاب القومية والمحافظة ، سيهيمن على سبيل المثال حزب المحافظين في بريطانيا على المشهد السياسي كذلك حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في فرنسا برئاسة مارين لوبان Marine Le Pen كما ستغدو كل دولة أكثر قوقعة متمسكة بفضاء إنتمائها الديني (الإسلامي، المسيحي) أو الجيوسياسي (ألآسيوي، الأوروبي) أو العسكري كحلف شمال ألأطلسي NATO أو ألإيديولوجي إلخ …!
كما ستسعى هذه ألكيانات إلى تعزيز قدراتها وصولآ  إلى الاكتفاء الذاتي (إنطواء إقتصادي) Economic Introvertion ومن المحتم أن الانفتاح الاقتصادي ألحر السائد حاليآ أحد ضحايا الوباء؛ سيحظى الأمن الصحي والغذائي بأولوية غير مسبوقة وربما يصبح النظام العالمي الجديد اكثر إنسانية بألمقابل ستتغير الأحلاف العسكرية والمعاهدات كما الاستراتيجيات المعتمدة حتى قواعد الاشتباك على صعيد الرعيل القيادي الأعلى والعقيدة القتالية Doctrine إذ سيتضاءل دور السلاح النووي و نظم الحرب الإلكترونية وسيزداد الاهتمام بوسائل الحرب الكيميائية والبيولوجية Che-Bio warfare مع سبل إستباق تفعليها ومواجهتها حتى تلافي إشتباك المصادفة Meeting Engagement أو فقدان السيطرة على تخليق الفيروسات Synthesized Viruses  أما التحالفات الجيو سياسية و الاقتصادية كالاتحاد الأوروبي وغيره فقد تشهد شبه تفكك كما ستتحول أحلاف أُخَرى إلى حطام ايديولوجي IdeologicalDestruction ..!
تزامنآ فإن موازين قوى جديدة ستفرض نفسها ، سينحسر إلى حد ما المجال الجيوسياسي للهيمنة الاميركية وسطوة السلاح الأخضر “الدولار ألأميركي” وستبرز الصين قوة صاعدة وقطبآ ثالثآ معنيآ بإدارة الكوكب بعد الولايات المتحدة والاتحاد الروسي إذ سيتعاظم دورها وتتبوأ رأس العولمة الاقتصادية والتجارية برآ وبحرآ عبر ما يسمى “طريق الحرير” الشريان التجاري الأكبر ذو الأذرع الأربعة شرقآ نحو روسيا، دول ألإتحاد ألأوروبي غربآ، منطقة الشرق الأوسط ، اميركا اللاتينية والقارة ألأفريقية بألمقابل ستعاني الولايات المتحدة الاميركية ارتداداتً زلزالية وارتجاجاً داخليآ في بنية قيادتها ومؤسسات الدولة العميقة مع ألإشارة إلى تدني فرص عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض خلال الانتحابات القادمة نهاية هذه السنة ..!
في سياق متصل أخير الهجوم الكوني من الفيروس التاجي سيكون من اهم المحطات التي مرت بها البشرية إذ ستبقى آثاره وانعكاساته لسنوات طويلة ، لكن الأهم المتوقع والمرتجى فهو العودة إلى الإنسان والمثل الإخلاقية بوجه ما ارتكب من حروب وما عم من مجاعات ومآسي لعل وعسى تكون الإنسانية هي القوة الصاعدة الجديدة على صعيد ألكوكب ..!
 
بيروت في 14.04.2020
*كاتب و باحث .