“القبضايات” اذا حكموا …

 

بقلم : توفيق شومان*
كان رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق ، تقي الدين الصلح ، يردد دائما : ” الحوار السياسي والبناء المشترك من صنع العقل وليس من صنع العضلات “.
وثمة مقولة شهيرة لوزير الخارجية اللبنانية الأسبق سليم تقلا ، يقول فيها : ” ليس المطلوب من السياسيين أن يتحدثوا مثل القبضايات “.
الحملات الإعلامية والسياسية البذيئة والمقززة التي تتبادلها غالبية الطبقة السياسية اللبنانية الحالية ، جعلت أغلب السياسيين اللبنانيين أضحوكة لدى الجمهور والعامة ، وبما يفضي إلى القول بأن ” الإبداع ” غير المسبوق في رذيلة السباب ينطوي على انحطاط غير مسبوق في الخطاب السياسي وأدبياته.
غابت الأخلاق … حلت الغريزة.
غابت السياسة فحضر عنترة العبسي وأبو زيد الهلالي.
الواقع اللبناني يقول : ان غالبية الطبقة السياسية اللبنانية صنعت جيلا لبنانيا يساوي بين السياسة وقلة الأخلاق وبين فعل السياسة وقول الشتيمة وبين خطاب السياسة وخطاب السُباب.
وحين يتطبع الخطاب السياسي بالشتائم المشينة ، فالأمر يعني استحالة الإصلاح ، إذ لا يمكن انتظار الإصلاح من سياسيين يشتمون ويسبون ، ذلك أن أولى مظاهر الفساد تكمن في فساد الخطاب ، فالقول الفاسد تعبير عن ثقافة فاسدة ، والثقافة الفاسدة لا تنتج إلا أفعالا فاسدة .
تلك مصيبتنا في لبنان
ولكن … من أين يمكن طرق باب مكافحة الفساد؟
من باب الأخلاق أولا ومن باب إخراج السياسة من قلة الأخلاق .
كيف ذلك ؟ هذه عودة إلى نشوء السياسة والأخلاق :
ـ في السياسة أولا : من أرسطو طاليس إلى فريدريك انغلز ، ثمة إجماع على أن الشعب بمعناه السياسي والدولة بمعناها القانوني ، هما نتاج تآلف الأسر الصغيرة واشتراعها أعرافا لتنظيم دورة حياتها ، وكلما كانت تتسع دوائر التآلف بين الأسر فتظهر العشيرة ثم القبيلة ثم الدولة ، كانت الحاجة إلى نظم الأمور تغدو أكثر إلحاحا ، ومن الحاجة نشأت الأعراف ومن الأعراف نشأت القوانين ، ومن الإصرار على تطبيق القوانين انبثقت فكرة الدولة كإطار عام يحفظ الأمن والمُلكيات في الداخل ويردع العدوان إذا أطل برأسه من الخارج.
ـ في الأخلاق ثانيا : الأخلاق هي قوانين غير مكتوبة ، اجتماعية الطابع ، وثيقة الصلة بالأعراف ، وحين تأخذ شكلها الكتابي تتحول قوانين مثل ” القدح والذم ” ، وجذور الأخلاق مستمدة من منع ” الإستباحة ” او تقييدها او الحد منها ، من مثل الكذب والشتم والإفتراء والسلب والقتل والهتك وغيرها ، وكل الذي سبق ذكره غدا قوانين عالمية مرتكزة إلى ثلاثة مصادر : القانون الروماني ـ الفلسفات الإنسانية ـ الأديان السماوية .
هل غالبية أهل السلطة في لبنان يراعون ما ورد في القواعد تلك والمعايير التي سبق قولها ؟
لا …
هم رجعوا إلى ما قبل السياسة وإلى ما قبل الأخلاق ، وهذه ثلاث قصص عن الحكيم الصيني كونفوشيوس ومأثوراته :
ـ في القصة الأولى وفساد الحاكم وأهل الحكم : سُئل كونفوشيوس : متى يكون الحاكم فاسدا؟
أجاب كونفوشيوس : إذا لم يسأل الحاكم عن جنس الطباخين ، وكانت غايته لذة الطعام ، ولم يسأل عن دين المعماريين ، وكان مقصده براعة المعماريين ، ولم يسأل عن سلالة زوجته وقومها ، وكان هدفه حسنها وجمالها ، ولكنه لا يولي مسؤولية الحكم والوزارة إلا لأبنائه وأنسبائه ، فاعلموا أن في ذلك فساد الحاكم وفساد الحكم .
ـ في القصة الثانية ومضمونها الشتائم والسباب، قيل لكونفوشيوس : ” ثمة أناس يغضبون للحق فيشتمون من هم ليسوا على حق فقال : ومتى كانت الشتيمة لغة الرجال الصالحين ” ؟.
ـ في القصة الثالثة ووعود الحاكم : يقول كونفوشيوس : ” ما كان من عادة القدماء أن يقطعوا على أنفسهم الوعود بسهولة ، فالإمتحان ليس في تقديم الوعود ، وإنما في الوفاء بها “.
هي صور من صور الصين القديمة يظهر فيها لبنان الحديث .
كأن كونفوشيوس في القرن الخامس قبل الميلاد كان يتحدث عن لبنان في القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد.
طبقة سياسية امتهنت خطاب الشتيمة وخطاب الوعود .
ما المنتظر منها غير ما قاله الشاعر :
بالملح نداوي ما دب الفسادُ به / فكيف إذا بالملح دب الفسادُ ؟.
عُرف عن الشاعر العراقي أحمد مطر ، مزجه بين دهشة الشعر والدمعة والسخرية ، فشعره مفرط باستدعاء السخرية حتى الإستبكاء ، و” لافتات ” أحمد مطر تتوغل في وصف أصناف الحكام وأنماط حكمهم وقواعد ممارستهم السياسية ويقول في لافتة من ” لافتاته ” :
بالتمادي
يصبح اللص في أوروبا
مديرا للنوادي
وفي أمريكا
زعيما للعصابات وأوكار الفساد
وفي أوطاني
التي من شرعها قطع الأيادي
يصير اللص
زعيما في البلاد.
ما يقوله أحمد مطر، يقوله السياسيون اللبنانيون عن السياسيين اللبنانيين ، وأية مراجعة لأغلب الخطابات والمواقف السياسية ، ستفضي حصيلتها إلى عظائم الإتهامات وأهوال التجريمات ، فمن ذا الذي يفتح أبواب فرج الإصلاح ومن ذاك الذي يغلق أبواب الفساد ؟.
عن الوعد والنكوث بالوعد قال أبو نواس :
فقلت : الوعد سيدتي فقالت : / كلام الليل يمحوه النهار.
وقال جميل بثينة :
حلفت لنا أن لا تخون بوعدها / فكأنها حلفت أن لا تفي .
تلك هي المسألة : إلى متى ينتظر اللبنانيون ؟
في البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح عام 1946، قال رياض الصلح :
” إن مرحلة الكفاح في سبيل إنشاء الدولة انتهت ، وقد بدأ دور الكفاح في سبيل إنشاء الوطن “.
لو كان رياض الصلح حيا ، كان قال وسأل :
نحن بنينا دولة وحاولنا أن نبني وطنا
أنتم ماذا فعلتم ؟
لم تتركوا للدولة أثرا
لم تعرفوا إلى الوطن أثرا .
يبقى سؤال أخير : كيف يبني ” القبضايات ” دولة ؟
” القبضايات ” يتزعمون أحياء وأزقة
وأما الدولة فتحتاح إلى عقول الرجال وليس إلى ” عضلات القبضايات .”
ذاك ما قاله تقي الدين الصلح ، وذاك ما قاله سليم تقلا .
عشتم وعاش لبنان .
……………………………………………

*كاتب، إعلامي وباحث.