العلاقات التركية – الإسرائيلية من المهادنة إلى المواجهة..!!

 

خاص – “أخبار الدنيا”

 

بقلم العميد منذر الأيوبي*

تَتجاوز العلاقات التركية – الإسرائيلية اليوم مرحلة التحالفٍ العسكري والإستخباراتي الوثيق المؤسس منذ تسعينيات القرن الماضي، لتصبح عند منعطف قطيعة قائمة على توتر حاد منذ بداية حرب غزة وما ارتكب من جرائم إبادة وتجويع بحق المدنيين الفلسطينيين..
تاريخيآ؛ منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، سعت أنقرة للموازنة بين إرثها الغربي وبين تحولها قوة إقليمية مستقلة مؤثرة. بالتوازي كان الصدام مع إسرائيل يُستوعب في محطات كثيرة، من “مؤتمر دافوس” عقب سجال ساخن بين بيريز وأردوغان عام 2009، إلى “موقعة مرمرة” عام 2010 والإعتداء على أسطول الحرية، وصولًا إلى الموقف التركي الحادّ من سياسات نتنياهو لأسباب عدة أهمها؛ رفضه حل الدولتين؛ التوغل العسكري في سوريا، زائد احتلاله جزءآ من جنوب لبنان وتثبيت الجيش الاسرائيلي مواقعه في النقاط الاستراتيجية الخمس.

كما ان هذا التحول في العلاقات غير بعيد عن تيارٍ داخلي أعاد تعريف الهوية التركية ودورها الإقليمي. فالسياسة الخارجية عند أردوغان باتت امتدادًا لعقيدةٍ تجمع بين الواقعية والطموح الإمبراطوري المبطّن بالخطاب الديني، فيما ترى إسرائيل في هذه المقاربة تهديدًا لتوازنات كانت تصبّ دائمًا في صالحها.

سياقآ تجاوز التوتر الأخير الحسابات التقليدية، بعدما تحوّل الموقف التركي من حرب غزة إلى حملة دبلوماسية وإعلامية شديدة اللهجة ضد إسرائيل. أردوغان أعاد توظيف القضية الفلسطينية كورقة أخلاقية وشعبية، مستعيدًا دوره “الرمزي” كزعيم مسلم يتحدّى إسرائيل والغرب معًا. في المقابل، ترى تل أبيب أن أنقرة تستخدم المأساة الفلسطينية لتعزيز حضورها في الشارع العربي والإسلامي، لا حبًّا بغزة بل بحثًا عن شرعيةٍ تتآكل داخليًا.

من زاوية اخرى؛ رغم محاولات ترميم براغماتية للعلاقات بالحد الادنى، إلا ان رسم خارطة الشرق الأوسط الجديد لا تزال على ورقة المسودة، بإنتظار تبيان القدرة على التحقيق ولو بالتقسيط. بالتالي وُضِع الطرفين امام اختبار يعلو العلاقات الديبلوماسية العادية، اذ تصبح الأخيرة ثانوية امام المصالح الإستراتيجية الكبرى، وحدود النفوذ السياسي في الاقليم. رغم ذلك، لم تنقطع الجسور تمامًا فالمصالح الاقتصادية والطاقة والتجارة ما زالت تفرض نفسها بقوة، إذ تدرك أنقرة أن الانقطاع الكامل مع تل أبيب يعني خسارة أوراق ضغط داخل المعادلة الغربية، فيما ترى إسرائيل وبرعاية الولايات المتحدة
أن إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع تركيا أكثر فائدة من تركها تندفع نحو المحور الروسي – الصيني، لتكون علاقة معقّدة بين خصمين يعرف كلٌ منهما حاجة الآخر إليه.

ثم ان تشابك المصالح لا يعني عودة التحالف، إذ لا توجد مصلحة مشتركة معلنة حتى الآن بين تركيا وإسرائيل لتقسيم سوريا، لكن التقاطعٌ الموضوعي في النتائج موجود. تل ابيب تعتبر تفكك الجغرافيا السورية ضمانةً استراتيجية طويلة المدى، تحول دون عودتها دولة مركزية مؤثرة. أما أنقرة فترى في إقامة شريط نفوذ شمالي وسيلةً لحماية أمنها القومي وإعادة هندسة المشهد الديمغرافي بما يخدم مصالحها.

بالتالي ليست هناك مؤامرة مشتركة، بل توازٍ في المصالح يجعل التقسيم الفعلي أمرًا غير مزعج لأيٍ من الطرفين. فإسرائيل تفضّل الفوضى المُدارّة. فيما تفضل تركيا السيطرة المباشرة عبر تبني واحتضان السلطة الجديدة ، وكلاهما يجد في استمرار الإنهاك السوري وإن بتفاوت فرصةً لتعزيز نفوذه. إنه تلاقي الضرورات لا تلاقي القناعات، وتفاهم الصمت الذي يلتقي عند حدود المصلحة لا عند قيم أو تحالفات سياسية صلبة.

من جهة اخرى يطرح السؤال حول قواعد الاشتباك وفرص التسوية؛ او هندسة النفوذ..؟ لن يكون أي اشتباكٍ عسكري مقبل (مدروس ومحدود) سوى مدخلٍ لتسويةٍ جديدة تُكرّس مناطق نفوذ واضحة، وتحوّل “الفوضى السورية” إلى هندسةٍ جيوسياسية مستدامة. فنتنياهو، المحاصر داخليًا، يدرك أنّ تفجّر الجبهة الشمالية-الشرقية أو تصاعد التوتر في سوريا قد يمنحه فرصة استمرارية قائمة على معالجة واقعٍ ميداني جديد، يمنع تسرب الهيمنة الإيرانية بالإرتخاء الأمني ، كما يُقنّن الوجود العسكري التركي في الشمال السوري تحت ذريعة “الأمن الإقليمي”.

توازيآ، أحداث السويداء الأخيرة ليست بعيدة عن هذا المشهد؛ إذ كشفت هشاشة البنية السورية، وأظهرت إمكانية استثمار التوتر الداخلي والصراع الطائفي دون حاجة لحربٍ شاملة. في هذا السياق، يصبح الاشتباك المحدود وسيلةً للتسوية الكبرى
لا العكس، إذ يُستخدم لإنتاج معادلة تفاوضية تُقسِّم السيطرة وتُشرعنها دوليًا لاحقًا.

روسيا، من جانبها، بعد زيارة رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع موسكو، عادت الحَكَم المركزي للتعادل دون أهداف، من خلال قدرتها إجبار اللاعِبَين قبول تسوية واقعية، تمنح كل طرف مساحة محدودة للمناورة، دون السماح بأي تغيير جذري. ثم
ان حضورها العسكري والسياسي الوازن يجعلها حارسآ للمعادلة الثلاثية المتحكمة بخطوط التماس الجيوسياسية. بالتالي إسرائيل تضمن حماية حدودها ومنطقة نفوذها، تركيا تحمي مصالحها وتُحافظ على أوراق الضغط الحدودية، فيما روسيا تتحكم في الإطار العام للتسوية، مانعةً أي انهيار كلي للسلطة السورية.

استطرادآ لهذه المعادلة دعامات مركزية، إذ لا تهمل موسكو الدور السعودي الاقتصادي والاستثماري لا بل تشجع عليه وتَضمَنَه معتمدة على ترسيخ الأستقرار الداخلي ووضوح الأفق السياسي. ليكون محركًا للتنمية والشرعية الاقتصادية في منطقة تخضع لتوازنات جديدة، ما يضع المملكة في موقع مؤثر اقتصاديًا ودبلوماسياً محتفظة بورقة اعادة الإعمار بما يعكس مصالحها وأولوياتها. بينما تظل القوى الكبرى الأخرى، مثل روسيا وتركيا وإسرائيل، تسيطر على المشهد الأمني والميداني.

في المحصلة، تمثّل العلاقات التركية – الإسرائيلية مرآةً دقيقة لتحوّلات الإقليم: لا صداقة دائمة ولا قطيعة مطلقة. فبين الخطاب الديبلوماسي والمصلحة الباردة، يتحرك الطرفان في مساحة رمادية يحكمها الظرف والتوقيت. الثابت أن الشرق الأوسط لم يعد يحتمل الاصطفافات القديمة، وأنّ من يملك القدرة على الموازنة بين المهادنة والمواجهة مع حيازة الثقل النوعي الاستراتيجي هو من سيحجز لنفسه موقعًا في النظام الإقليمي المقبل.

——————————

*عميد متقاعد، كاتب وباحث

📢 اشترك بقناتنا على واتساب
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.
انضم الآن