الطائفية ليست قدراً .. بل نتيجة حتمية لفشل الدولة

خاص – “الدنيا نيوز”

بقلم العميد منذر الايوبي*

لا يمكن فهم الطائفية خللًا اجتماعيًا أو انحرافًا سياسيًا عابرًا، بل تحولآ عميقآ يُسَخِر الدين في المجال العام. هي لا تُنشأ حيث الإيمان حيّ متحرّر، بل حيث يُفرَّغ من جوهره الأخلاقي ليكون أداة تنظيم وسيطرة. بهذا المعنى، تسقُط رفعة الأديان في نقيض الإيمان الحر القائم تأسيسآ على إرتباط بالخالق، المسؤولية الفردية والضمير الأخلاقي..!

في جوهره الفلسفي، الإيمان علاقة مع المطلق، تحرّر من خوف، دعوة لمساءلة الذات قبل محاكمة الآخر. تنتقل به الطائفية من مجال الضمير إلى دائرة الجماعة، ومن السؤال عن المعنى إلى يقين الشعار. ليفقد دورآ إرتقائيآ، متحولآ هوية مغلقة تُدار سياسيًا.. هي ليست إفراطًا في تديّن، بل روحانية ناقصة تُخفّف عبء الأخلاق عبر الاحتماء بالجماعة..!

ثم انها في غياب هيكل الدولة الراسخ تصبح آلية سياسية تُشَرع عُرفَآ او بالدستور. ففشل الدولة ممارسةً او عمدآ تأمين العدالة الاجتماعية والحماية المتساوية للمواطنين على تنوع إنتماءاتهم، حجة تتقدّم يُروج لها بديلآ وظيفي لا خيارآ وجداني.
وبتمادٍ تُحولها رُعاتَها «شركة تأمين سياسية» ولاء مقابل حماية من القانون او الآخر ، دَفعٌ لِإلتزام هوية مموهة بوطنية زائفة مقابل خدمات مصلحية قد تُسدد انتخابيآ او سوى ذلك؛ على هذا التقاطع، يلتقي تشويه الدين مع عطب الدولة في بنية واحدة.!.

تُجسّد التجربة اللبنانية الكينونة الطائفية بشكل فاضح. لم يُبنَ الوطن دولة مركزية علمانية او مدنية محايدة فوق الجماعات، بل نِظامآ لإدارة التوازنات المذهبية. ودون تعفف او بصيرة عقلانية مستقبلية، تم استثمار الزمن لتتحول الصيغة من ضمانة تعايش إلى ميكانيزم إستمرارية توجس وخشية مرفقة بتبجيل وإحترام. إذ لم تعد الطوائف مكوّنات اجتماعية داخل بنية الدولة، بل وحدات سياسية تفاوضها وتُرَسِم حدودها..!

إلى ان أُعيد تعريف المواطنة من زاوية الانتماء لا من خلال واجبات وحقوق. إذ ان المواطن لا يصل إلى الدولة مباشرة، بل عبر وسيط طائفي “التوظيف، الخدمات، الحماية، وحتى العدالة، تمرّ عبر بوابة الجماعة”. هكذا تحوّلت الطائفة سلطة رعاية وضبط في آن، تُقدّم نفسها حامي حقوق وعيش، فيما تُمارس وصاية كاملة على الفرد، تُفكَّر عنه، تُفاوض باسمه وتقرر بدلآ منه..

ولعلّ المفارقة الأوضح تظهر في علاقة النظام الطائفي بإتفاق (30/09/1989) أنهى حربآ اهلية، مُقِرآ وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وُضِعت بين الأطراف المتنازعة بوساطة سعودية “نجت من الفيتو السوري آنذاك”، لتتحول المشكلة من تسوية انتقالية، إلى بنية دائمة لإدارة الحكم. إذ كان يُفترض أن يكون الدستور الجديد المنبثق عن الوثيقة جسر عبور نحو الدولة، فإذا به يتحوّل غطاءً دستوريآ لتثبيت الطائفية في عمق النظام بدل تفكيكها وتكريس توازنات مذهبية اكثر فداحةً بدل تجاوزها..!

سياقَآ، لم يُلغَ الدين في التجربة اللبنانية، بل استُخدم او سُخِرْ. إذ تم إفراغه من بُعده الأخلاقي والإيماني الكَوني، ليعاد تقديمه اداة تعبئة سياسية. ارتفع الخطاب الديني المتشدد او الإنعزالي في العلن، فيما انخفض منسوب القيم الدينية في الممارسة العامة. هذا الانفصام بين القول والفعل شَكَلَ أهم أعراض الطائفية مُرتديةً لُبُوس القداسة..!

من هنا، صار الحديث عن «إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص» تندُرآ وطرحًا قاصرًا قَلَبَ السبب بالنتيجة. النفوس لا تتغيّر طالما البنية السياسية قائمة على الخوف والانقسام. الطائفية لا تنهزم بالوعظ، بل تفقد مبرّر وجودها حين تستعيد الدولة دورها مرجعية عدالة محايدة، وحين يعود الدين إلى مجاله الطبيعي، مجال القيم والمعنى الإيمانيّ لا مجال السلطة..!

في المحصلة، لبنان حاضر هنا كنموذج كاشف لا مُتّهم، مرآة فلسفية لا حالة يائسة. الطائفية ليست قدرًا، بل نتيجة فشل إرادي مزدوج: فشل الدولة في بناء المواطنة، وفشل تحويل الدين من هوية مغلقة إلى قيمة إنسانية جامعة. نزع القداسة عن الطائفية ليس عداءً للدين، بل دفاعًا عنه من تشوه، خطوة أولى على طريق استعادة الدولة الحَقّة وروح الإيمان الجامِع معًا..!

*عميد متقاعد،كاتب

📢 اشترك بقناتنا على واتساب
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.
انضم الآن