الصراع الاميركي – الصيني.. هل نحن على أعتاب حرب باردة جديدة؟
بقلم: العميد منذر الأيوبي*
في عالمٍ تتبدّل موازينه الجيوسياسية بوتيرة متسارعة، يتعاظم الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية، ليأخذ طابعًا يتجاوز التنافس الطبيعي بين القوى الكبرى، ويقترب من حربٍ باردةٍ جديدة تُشنّ بأدوات العصر الرقمي، وبأنفاس تكنولوجية واقتصادية، عوضًا عن الجيوش التقليدية والصواريخ النووية.
ورغم التشابه في مشهد الانقسام العالمي، إلا أن السياق التاريخي اختلف؛ إذ لم يعد صراعًا بين أيديولوجيات شيوعية ورأسمالية، بل اشتباكًا على النفوذ والتفوّق في عالمٍ مترابط اقتصاديًا بشكل غير مسبوق، ما يجعل “الفصل الكامل” صعبًا، وربما مستحيلًا.
شهدت العقود التي تلت الحرب الباردة تعاونًا متزايدًا بين بكين وواشنطن حدّ الشراكة، تُرجم بانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. تزامنًا، كانت الصين تُعدّ نفسها بهدوء لمرحلة صعودٍ استراتيجي تعيد التوازن الدولي، وهو ما لم يكن خافيًا على صنّاع القرار في واشنطن، ما دفع الأخيرة إلى إعادة تقييم دورية تحفظ موقعها كقوة مهيمنة أوحد.
ثم إنّ بكين، مدفوعةً بنمو اقتصادي استثنائي، كرّست خطوط الانفصال عن الولايات المتحدة بالتوازي مع التحامٍ استراتيجي مع الاتحاد الروسي، لتتحوّل اليوم إلى لاعبٍ فاعلٍ في النظام الدولي، بينما باتت الرؤية الأميركية قائمة على سياسة الاحتواء، إلى حدٍّ ما.
في هذا السياق؛ اختلفت أدوات المواجهة التقليدية، لتحلّ محلّها حرب الرقائق الإلكترونية وقدرات الذكاء الاصطناعي. كما تعدّدت ساحاتها لتشمل:
1. الاقتصاد والتجارة: بدأت الحرب التجارية فعليًا عام 2018، حين فرضت واشنطن رسومًا جمركية على مئات المليارات من الواردات الصينية، وردّت بكين بالمثل. وتجدّدت المعركة في عهد الرئيس ترامب حول الهيمنة على سلاسل التوريد والمعادن النادرة.
2. التكنولوجيا: كان السباق على التفوق التقني الأكثر حساسية، تمثل في حربٍ سيبرانية صامتة وخطيرة. من أبرز محاورها: قضية “هواوي”، دخول الصين بقوة في صناعة أشباه الموصلات (Semi Conductors / Chips)، حظر تطبيق “تيك توك”، والريادة في الفضاء من خلال إطلاق مجموعة أقمار صناعية منذ بداية هذا العام لأغراض متعددة أهمها: الاتصالات الرقمية واستكشاف الفضاء.
3. المسرح الميداني والتحالفات: بمواجهة القفزة الهائلة في التصنيع العسكري الصيني، والتوتر المستمر حول جزيرة تايوان، لجأت واشنطن إلى دعم الأخيرة دفاعيًا وسياسيًا، وتوسيع تحالفاتها بإنشاء الرباعية الأمنية (QUAD) التي تضمّ كلًّا من أستراليا، اليابان، والهند، وفق ما صرّح به وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، إضافةً إلى توقيع اتفاق (AUKUS) مع بريطانيا وأستراليا. في المقابل، رأت بكين في هذا الدعم تدخلًا سافرًا، وفي تلك التحالفات استفزازًا مباشرًا يدخل ضمن سباق التسلّح، ووصفته بأنه “تهديد غير مسؤول إطلاقًا” للاستقرار الإقليمي.
من جهة أخرى، تعتمد الصين مفهوم “التوسّع الناعم” – Soft Expansion، إذ تسعى لفرض نفوذها عبر الاقتصاد والدبلوماسية، معزّزة مكانتها بانضمامها إلى تكتلات دولية أبرزها الكتلة الجيوسياسية BRICS التي تضم: البرازيل، روسيا، الهند، الصين، ثم جنوب أفريقيا، وقد انضمت إليها لاحقًا دول مثل: إيران، مصر، إثيوبيا، والإمارات. كما تعمل الصين على تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق” أو “طريق الحرير الجديد”، الذي يربط الصين بالعالم (140 دولة)، ليصبح أكبر مشروع بنية تحتية في العالم، يمنحها سيطرة استراتيجية على التجارة العالمية.
أما أبرز جبهات الصراع مع الولايات المتحدة، فتتمثّل في مواجهة الهيمنة المالية، حيث بدأت الصين خطوات جدّية لتقويضها من خلال اعتماد التبادل بالعملات المحلية، وإنشاء أنظمة دفع بديلة مثل CIPS (البديل الصيني لـ SWIFT). ورغم أن هذه المحاولات لم تصل بعد إلى حدّ تهديد مباشر للدولار الأميركي بوصفه “عملة الاحتياط العالمية” ووسيلة الدفع شبه الوحيدة في التجارة الدولية، إلا أنها تشكّل تحوّلًا استراتيجيًا طويل الأمد، قد يُحدث شرخًا في النظام المالي العالمي، إن تراكم الدعم الدولي لهذا التوجّه.
لقد بات العالم في ظلّ نظام شبه متعدد الأقطاب، تراجعت فيه القدرة الأميركية على فرض الإملاءات الأحادية، مقابل تصاعد قوة الردع الاقتصادية والعسكرية المزدوجة (الصين – روسيا). لكن هذا لا يعني نهاية التفوّق الأميركي، بل بداية مرحلة من إعادة التوازن الدولي، حيث تتنافس دول الثقل النوعي ضمن قواعد تحكمها المصالح المشتركة والمسارات الدبلوماسية العقلانية. فيما تبقى الأسواق العالمية، والتحالفات الإقليمية، والتقدم التكنولوجي، هي الميادين المفتوحة للمواجهة القادمة.
يبقى السؤال معلقًا:
هل نحن أمام “حرب باردة ذكية”؟
أم أننا نكتب فصولًا أولى من “صراعٍ حارّ” قد يعصف، في لحظةٍ هوجاء، بالنظام العالمي بأسره؟
——————————-
عميد متقاعد؛ مختص في الشؤون الأمنية والاستراتيجي