الشرع في موسكو.. عودة سوريا الى التوازن والمشهد الدولي.
خاص – “الدنيا نيوز”
بقلم العميد منذر الأيوبي*
منذ سقوط رأس النظام السوري السابق ودخول أحمد الشرع قصر المهاجرين رئيسآ للمرحلة الانتقالية، والرجل على غير المتوقع يلفت الأنظار إن بهدوء تصرف او بدقة عبارات ، ليتضاعف التقييم ايجابآ لدى المراقبين وقادة الدول نتيجة اداء قيادي ديبلوماسي رَشَحَ من خطوات مدروسة على رقعةٍ دوليةٍ معقدة؛ ليكون التموضع السياسي الجديد على تقاطع انقرة- الرياض نهجآ مرسومآ مُسبقآ اخرج سوريا من محور التحالف مع ايران، وإعاد تثبيت موقعها في الحضن العربي. بالتوازي ايضآ، تفادى الرسوب متجاوزآ مادة التطبيع مع اسرائيل كعلامة لاغية، مكتفيآ بدرجة متوسطة من نوع الاتفاقية الامنية، ذلك على قاعدة (اللا مناص) “مرغمآ أخاك لا بطل”.
ثم تَسَارَع المسار لبلوغ نقطة التحول الكبرى إثر لقاءين مع الرئيس دونالد ترامب، الأول برعاية وطلب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان خلال القمة العربية–الأميركية، والثاني في سياق المتابعة وتثبيت الاهتمام الاميركي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي انعقدت في نيويورك، وعلى خلفية إتقان في التواصل السياسي والرؤية الاستراتيجية، امسك الشرع زمام المبادرة مُيمِمآ شطره شرقآ نحو الكرملين للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
في السياق؛ اللقاء الأول في الرياض خرج عنه تفاهم غير معلن قضى برفع تدريجي للعقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، مقابل التزام دمشق خارطة إصلاحات داخلية، حماية الأقليات، وخطوات ميدانية لضبط الحدود ومكافحة شبكات التهريب.
ما فتح الباب أمام انفتاح اقتصادي عربي ودولي، أعاد الحيوية إلى الليرة السورية وأعطى المرحلة الانتقالية زخماً داخلياً واضحاً.
انطلاقاً مما سبق، جاءت زيارة موسكو لتُكمّل معادلة التوازن بين الشرق والغرب. إذ ادرك الرئيس الشرع ان لا غنى عن موسكو والعلاقات التاريخية معها من الأهمية بمكان. ليصح التوضيح او التأكيد أن الانفتاح على واشنطن والعواصم العربية لا يعني تبدلاً في الثوابت، بل توسيعاً لدائرة العلاقات وفق مبدأ السيادة المتبادلة والمصلحة المشتركة. عليه حمل اللقاء مع الرئيس بوتين طابعاً استراتيجياً لا شكلياً، متناولآ ثلاثة محاور أساسية: مستقبل القواعد الروسية، إعادة الإعمار، والدور السياسي لروسيا في ضمان التسوية الداخلية.
ثُم ان انفراج العلاقات السورية مع واشنطن فأمر مرحب به من منظور موسكو، إذ يسبغ على القرار السوري استقلاليةً ولو نسبية، كما يمكن لحظه او استثماره عند الاقتضاء كفرصة تقاطع مصالح نادر، فالتخفيف من العقوبات يتيح انخراطاً اقتصادياً روسياً أوسع، ويمنحها منفذاً لتخفيف عزلتها الدولية. أما دمشق، فتسعى إلى تحويل هذا التوازن سياسة ثابتة، لا عودة فيها إلى الاصطفاف المحوري، بل بناء علاقات متوازنة مع القوى الكبرى دون التفريط بالقرار الوطني.
الملف الاقتصادي شكّل أحد أبرز عناوين الزيارة. فقد عرض الشرع على الجانب الروسي مبادرة “الممر السوري للإعمار”، ما يتيح مشاركة الشركات الروسية والأميركية والعربية في مشاريع البنية التحتية والطاقة، ضمن ضمانات قانونية دولية، وبإشراف لجان مشتركة من الحكومة الانتقالية والمؤسسات الأممية. هذه المقاربة الاقتصادية الجديدة تعكس فهماً واقعياً لضرورة تنويع الشركاء، وإخراج سوريا من حالة الاعتماد الأحادي التي رافقت سنوات الحرب.
سياسياً، أكّد الشرع في موسكو التزامه بخارطة المرحلة الانتقالية التي تمهد لإعادة توحيد المؤسسات وتنظيم انتخابات عامة بإشراف دولي، مع الحفاظ على وحدة الأرض والجيش. موسكو من جهتها شددت على دعمها للاستقرار وللحوار الوطني الداخلي، مؤكدة أن أمن سوريا هو جزء من أمن الشرق الأوسط برمته.
تبدو ملامح الدبلوماسية السورية الجديدة أكثر وضوحاً الآن: توازن دقيق بين موسكو وواشنطن، انفتاح على العواصم العربية، ورؤية اقتصادية قائمة على الشراكة لا المساعدات. هذه السياسة المتعددة الاتجاهات محاولة جريئة لإعادة تموضع سوريا ضمن نظام دولي يتغيّر بسرعة.
في المحصلة، لا تُقرأ زيارة الشرع إلى موسكو كتحرك منفصل، بل كحلقة منسقة من استراتيجية إعادة اندماج سوريا في المجتمع الدولي. رفع العقوبات، الانفتاح العربي، والتقارب مع روسيا، كلها حلقات في مسار واحد عنوانه “العودة إلى الشرعية الدولية عبر التوازن”.
اما التحدي الاساس الملقى على عاتق الإدارة السورية فمنع تقسيم سوريا إلى كيانات متعددة، واستعادة الأراضي التي احتلها الجيش الاسرائيلي مؤخرآ وفق مخطط نتنياهو ومشروعه التلمودي، تثبيت هذه المعادلة يضع سوريا أمام بداية مرحلة تاريخية جديدة تعيد إليها دورها الإقليمي بعد عقود من العزلة.
———————————
*عميد متقاعد، مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.