الدرس الاستراتيجي لعملية “قمة النار”: للاسرائيلي اليد الطولى في الاقليم
خاص – “الدنيا نيوز”
بقلم : العميد منذر الايوبي*
في التاسع من شهر أيلول الحالي 2025، أطلقت إسرائيل عملية “قمة النار”، منفذةً غارة جوية بعيدة المدى غير مسبوقة لاغتيال قادة “حماس” المستقرّين في العاصمة القطرية. بحسب تقرير في “غلف نيوز”، استخدم سلاح الجو الإسرائيلي 15 مقاتلة، قطعت 2250 كيلومتراً من قاعدة نيفاتيم (بئر السبع) إلى الدوحة، لتطلق أكثر من 10 صواريخ دقيقة على هدف واحد من منطقة بحيرة الخليج الغربي- الجهة الشمالية الشرقية للدوحة.
يرى خبراء عسكريون أن إسرائيل استخدمت مقاتلات “شبح” من طراز F-35I Adir، رافقتها مقاتلات F-15I Ra’am للحماية وتقديم الدعم عند الحاجة. زوّدت المقاتلات بخزانات وقود خارجية، وسُلِّحت بصواريخ موجهة بعيدة المدى، قادرة على ضرب الهدف من خارج المجال الجوي القطري. وكان رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أكد أن إسرائيل استخدمت “أسلحة لم يستطع الرادار اكتشافها”، مسلّطاً الضوء بذلك على قدرات التخفّي المستخدمة في العملية الجوية.
في سيناريو المسارات المحتملة ..! تُطرح عدة فرضيات لكن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو عبور الأجواء السورية والعراقية. فالطيران الحربي الإسرائيلي ناشط فوق سوريا والعراق، من دون معوّقات، وهذا يسمح له بحرية الحركة وصولاً إلى المياه الدولية في الخليج العربي. وبذلك يكون هذا المسار الأكثر واقعية مقارنة بالمسارات الأخرى، سواء الجنوبية عبر السعودية، أو الشمالية عبر الأردن، أو حتى المسار البحري باستخدام صواريخ بعيدة المدى من المياه الدولية.
لكن أياً يكن المسلك، فيتعذر على المقاتلات الإسرائيلية قطع المسافة ذهاباً وإياباً بين إسرائيل وقطر دون التزوّد بالوقود جواً. ما يفرض استخدام حاملات وقود من طراز KC-707 Saknai لإتمام المهمة، وما يثير الاهتمام أن ناقلة وقود بريطانية من طراز Voyager، تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني، كانت تجري تدريبات في اجواء الخليج لحظة الهجوم، رغم أن المسؤولين البريطانيين أكدوا أن هذه الناقلة كانت جزءاً من مناورات “الصقر الجارح” السنوية التي تجري في قطر، وهي غير متوافقة مع أنظمة التزوّد بالوقود في المقاتلات الإسرائيلية.
سياقآ، كشفت العملية فشل أنظمة باتريوت PAC-3 وNASAMS المتقدّمة المستخدمة للدفاع الجوي في قطر، التي تستضيف قاعدة العديد الأميركية لجهة اعتراض التهديد الجوي، ما يشير إلى أمرٍ من اثنين: تشويش إلكتروني لا يمكن ردّه، أو حسن استغلال العدو لـ”نقاط عمياء” في أنظمة الرادار الأميركية.
في خضم هذا التصعيد الاقليمي، تأتي عملية “قمة النار” ليس فقط كضربة عسكرية دقيقة، بل كدرس استراتيجي يتجاوز مجرد الوصول إلى الهدف. فالقدرة على اختراق مسارات طويلة، مع التزود بالوقود جواً، واستغلال نقاط ضعف الرادارات المتطورة، تثبت درجة متقدمة من التخطيط والمراقبة الاستخباراتية المسبقة. لتكون العملية بهذا الشكل ليست مجرد هجوم على مقر أو هدف محدد فقط، بل اختبار مباشر للقدرة على فرض النفوذ والسيطرة على مسار الأحداث في منطقة معقدة سياسياً وأمنياً.
في الانعكاسات يمكن استخلاص التالي: على صعيد الدولة التركية، التي سبق وتعرّضت قواعدها في سوريا لضربات مشابهة من قبل سلاح الجو الإسرائيلي، ستكون أمام واقع صعب؛ موازنة الدعم لحليفتها قطر مع تجنب التصعيد المباشر مع إسرائيل.
أما دول الخليج العربي، فتكشف العملية عن قصور منظوماتها الدفاعية المشتركة، وعن محدودية لفاعلية الاتفاقات الأمنية، في وقت تُظهر الولايات المتحدة تحفظًا دبلوماسيًا واضحًا، ما يضعها (الدول الخليجية) أمام حاجة ملحة لإعادة ترميم قدراتها العسكرية وتقييم استراتيجياتها التحالفية.
من جهة اخرى؛ يتوجب لحظ واستشراف احتمالات الضغط على كل من مصر والأردن، فسيناريو عدم التعاون مع إسرائيل في ملف الفلسطيني لجهة استيعاب سكان غزة او الضفة عبر تهجيرهم هدف إسقاط حل الدولتين نهائيآ، قد يضعهما كأطراف حساسة محتملة لمواجهة عملية عسكرية استراتيجية. هذا الاحتمال يكشف أن إسرائيل لن تكتفي باستهداف الخصوم المباشرين، بل تلوّح ضمنياً بأن خياراتها العسكرية يمكن أن تشمل أي طرف يعيق او يعترض مخططاتها، الأمر الذي يعكس قدرتها بعد سقوط محور الممانعة او تحجيمه على تمدد نطاق نفوذها في المنطقة.
أخيرًا، أظهرت هذه الضربة ان للعدو الاسرائيلي اليد الطولى في الإقليم، بالغطاء الاميركي ليس فقط لجهة تنفيذ ضربات جوية دقيقة، بل في فرض شروط سياسية واستراتيجية على دول متعددة، مع ترك بصمة واضحة على كل مستوى من التحالفات، القدرات الدفاعية، والسياسات الإقليمية… بذلك تتحول العملية من مجرد حدث عسكري إلى رسالة شاملة، يفترض قراءتها من المُطبعين والمُتريثين والرافضين بعين دقيقة، قبل أي خطوة سياسية أو عسكرية مستقبلية..!.
———————————
*عميد متقاعد، مختص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية