الجيش اللبناني.. السيادة الشاملة بعد التطوير

خاص – ” اخبار الدنيا”

بقلم العميد منذر الأيوبي*

من المُسَلم به ان الجيش اللبناني يُمثل الدعامة الأساس للدولة والضامن الأول لوحدتها واستمرارها، ليس فقط كقوة عسكرية منظمة، بل كرمزٍ للسيادة الوطنية وحارسٍ للهوية اللبنانية الجامعة. لذا لم يعد تطويره حاجة ظرفية، بل بات ضرورة وطنية ملحّة، خصوصًا في ظل مواجهته تحديات الوقوف امام أعتى آلة عسكرية عرفها الشرق الأوسط، اضافة إلى اخرى بنيوية، سياسية واقتصادية، تفرض وضع رؤية استراتيجية شاملة ضمن إطار دستوري وقانوني واضح المعالم.

رغم كل العوائق التي تُطرح أو يُهدّد بها لتفكيك تماسكه أو النيل من وحدته، عبر التشكيك بانتماء ضباطه وعناصره على أساس مذهبي، إلا أن هذه المعزوفة تجاوزها الزمن منذ إنتهاء الحرب الأهلية. فالظروف تبدّلت، والوعي الوطني تضاعف، ومقومات الانضباط العسكري ازدادت تجذّرًا. وإذا كانت هذه القناعات متأتّية من العقيدة الوطنية الصافية، فإن ما رسّخها أكثر هو نضج القادة الميدانيين شهودآ شرعيين على تواطؤ وقصور القيادات السياسية المتعاقبة، التي أهملت عمدًا دعم المؤسسة عديدًا وعتاد، واعتَبَرت قصدآ أن الولاء يمكن أن يُربط بها لا بالعَلَم والقَسَم، عبر تحفيزٍ طائفي وغبنٌ معيشي يجعل ما ذُكِر مِنّة لا حقّ.

كما كشفت التجربة، خصوصًا في مرحلة الانهيار الوطني الشامل، أن الطبقة الأوليغارشية الضاربة اذرعها في عمق الكيان فسادًا وإفسادًا أسقطت نفسها قبل أن تسقط هيبة الدولة ومصداقيتها. في المقابل، حافظ الجيش على انضباطية والتزام بالقوانين والأنظمة، رغم نقمة مشروعة على واقعٍ سياسيٍّ أرهق المؤسسات واستنزف المواطن.

تاليآ، وانطلاقًا من ضرورات متوجبة التنفيذ، فإن بناء منظومة أمنٍ وطني متكاملة تدعم الدور المركزي للقوات المسلحة، تعزز قدراتها وتؤكد استقلاليتها امر لا جدال فيه. كما يقتضي العمل على إعادة هيكلة دقيقة للألوية والوحدات وفق القدرات الدفاعية واللوجستية المتاحة، بالتوازي مع إنشاء بنية تحتية دفاعية متقدمة، خصوصًا في الجنوب، تسمح بخوض نوع من القتال التأخيري defensive delay combat، بما يفسح المجال أمام الحكومة تحريك المجتمع الدولي مع ممارسة الضغوط السياسية والديبلوماسية في مواجهة أي عدوان محتمل.

في السياق، ان اية عملية تطوير حقيقية للجيش اللبناني يجب أن تراعي التقدم التقني والقفزات التكنولوجية، اذ تبدلت صنوف الأسلحة التقليدية، لم تعد الحاجة للعتاد والأسلحة الثقيلة التي تتطلب ميزانيات هائلة، باتت الروبوتات والمسيرات، كما الصواريخ المضادة للدبابات والسفن وخلافه أسلحة فتاكة ضئيلة الأثمان ذات قدرات كفؤة في الاستطلاع والتدمير.

ثم ان العقيدة الوطنية تحدد هوية القوة العسكرية ووجهة استخدام السلاح، كما ترسم مفهوم الولاء والانتماء. كما ان الإصلاح في جوهره ليس إداريًا فحسب، بل فكر رؤيوي وتخطيط مؤسساتي، يبدأ من إرساء قاعدة: «قرار الحرب والسلم للدولة- الجيش والأجهزة الامنية حيادية قادرة- السلاح لخدمة السيادة لا لخدمة القرار السياسي المتنازع عليه». من هنا فإن العقيدة الوطنية للجيش اللبناني هي البنية الحصينة الضامنة صفاء الانتماء للجمهورية لا للطائفة، وللقانون لا للمصلحة، لتكون بذلك خط الدفاع الأول عن الدولة واستمراريتها.

في البنية التنظيمية، يكمن التحدي الأكبر، الفجوة واسعة بين حجم المهام الملقاة على عاتق القوى العسكرية وقدراتها الفعلية. إذ تعاني حرمانآ مزمنآ في التمويل والتجهيز، إضافة إلى نقطة الضعف التي تحاول القيادة تجاوزها، الكامنة في التوزيع الطائفي سواءً في التراتبية او في مراكز القيادة والإدارة. إن بناء جيش حديث لا يتحقق إلا بإصلاح داخلي عميق يعيد ضبط الهيكلية وفق حاجات العمل الميداني والعملياتي، إرتباطآ بمبدأ الكفاءة لا بإعتبارات مناطقية أو سياسية في اصلها ساقطة.

من جهة اخرى؛ ان التطوير البنيوي لا يمكن فصله عن ضرورة صياغة استراتيجية وطنية شاملة للأمن والدفاع. فغيابها تاريخيآ لطالما جعل المؤسسة العسكرية في موقع رد الفعل لا الفعل، تستجيب للأزمات بدل أن تبادر في إدارتها. المطلوب اليوم أن يتحوّل الجيش إلى عقلٍ استراتيجي للدولة، شريكٌ في صياغة القرار الوطني لا مجرد منفّذٍ له. هذه الاستراتيجية يجب أن تحدد بوضوح مصادر التهديد، أولويات المواجهة، آليات التنسيق بين الأجهزة، وحدود دور كل مؤسسة، بما يكرّس تكاملاً فعليًا في منظومة الأمن الوطني.

إن تطوير الجيش اللبناني ليس ترفًا مؤسساتيًا، بل ضرورة وجودية. فلبنان يقف عند مفترق دقيق، بين الحفاظ على كيانه كدولة ذات سيادة، وبين الانزلاق أو الاستسلام امام توازناتٍ مفروضة من خارج. اذ لا يمكن لأي نظام سياسي أن يستقر إذا لم يمتلك جيشًا قادرًا على فرض القانون ومنع تعددية السلاح. القوة الحقيقية تكمن في احتكار القرار العسكري تحت سلطة الدولة الشرعية، وفي ثقة المواطن بأن جيشه يحميه لا يراقبه، ويقاتل لأجله لا باسمه. عندها يصبح الجيش وما ينضوي تحت مظلته من اجهزة امنية محورًا لهذه الرؤية، لتتحوّل قدراته طاقة وطنية خلاقة، لا مجرد أدوات قتال، ولتغدو العقيدة العسكرية كما الإستراتيجية الوطنية الحديثة ركيزة لمستقبلٍ أكثر توازنًا، تُصان فيه الدولة كما تُصان الكرامة.

—————————-

عميد متقاعد – مختص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية.

📢 اشترك بقناتنا على واتساب
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.
انضم الآن