الثوابت والمتغيرات في أزمات النظام السياسي اللبناني

 

 

بقلم : العميد الدكتور صالح طليس *

يظهر للباحث في أي من أزمات النظام السياسي اللبناني، أن هناك دائماً عوامل خارجية وعوامل داخلية، بعضها ثابت وبعضها متغير بتغير الأزمات الممتدة على كامل تاريخ هذا النظام السياسي.
يمكن تلمس التداخل والتفاعل بين العوامل الاقليمية والدولية والعوامل الداخلية
منذ جذور ما سمي بالكيانية الاولى، “عهد الإمارة” ومحاولات فخر الدين المعني توسيع رقعة الجبل، واستعانته بتوسكانا والدول الاوروبية التي كانت مصالحها تقضي بالتدخل في شؤون السلطة العثمانية، ثم مع الأمير بشير الثاني وتحالفاته مع المصريين ضد السلطنة العثمانية في صراع إقليمي، حسمه التدخل الدولي الاوروبي لصالح السلطنة، وكان من نتائجه تفجر الخلاف الماروني الدرزي في الجبل، بسبب استعانة الأمير بشير بالموارنة أثناء حكمه. وما يزال هذا النمط من التداخل بين
العوامل الداخلية والخارجية مستمرا إلى اليوم.
فبعد هدوء الخلاف الماروني الدرزي حوالي العقدين، عاد لينفجر بشكل أكثر عنفاً بعد ثورة طانيوس شاهين عام 1858، التي بدأت، لأسباب طبقية واقتصادية، ثورة فلاحين ضد الاقطاع لتتحول إلى حرب أهلية بين المسيحين والمسلمين، توسعت وامتدت شرارتها الى دمشق بتحريض من السلطنة العثمانية. وانتهت تلك الثورة بتغلب الانتماء الطائفي على الوعي الاجتماعي. ومنذ ذلك التاريخ أصبح العامل الطائفي أحد الثوابت الداخلية في أزمات النظام السياسي اللبناني كما سنرى في دراستنا هذه.
تفاعل العامل الداخلي في هذه الازمة مع عامل دولي تمثل بالتدخل الفرنسي، واطماع نابليون الثالث في لبنان على حساب العامل الإقليمي المتمثل بتركيا، ولم تهدأ تلك الحرب الا بتفاهم دولي أوروبي وإقليمي قضى بإنشاء المتصرفية مع بروتوكول 1860 وملحقه في عام 1864.
هذه العوامل الثابتة والمتغيرة في المعادلة الدولية والاقليمية، تظهر لنا تفاعلاتها بوضوح مع العوامل الداخلية وتأثيراتها ايجاباً وسلباً في كافة الأزمات السياسية منذ ما قبل الاستقلال حتى يومنا هذا.
خلال الانتداب الفرنسي كان العامل الدولي والاقليمي المتمثل بالوجود الفرنسي هو الطاغي رغم كل ما حصل من تغيرات في مواقف اللبنانين من الكيان ومن الانتداب الفرنسي، لكن في ظل انقسام طائفي كامن سببه وحدة العاملين الدولي والاقليمي، المتمثل بالانتداب الفرنسي.
لكن قبيل الاستقلال وبعده بدأت الأزمات السياسية العنيفة تتكرر بشكل شبه
دوري، لذا سنحاول من خلال استعراضها بإيجاز أن نحدد العوامل المتكررة في الأزمات ابتداًء بأزمة 1943 والتي تلاها الاستقلال، للوصول الى فهم أزمة النظام السياسي الحالي وأفق حلولها.
أولاً: أزمة 1943:
بتاريخ 17 حزيران 1943 قام الرئيس ايوب ثابت، المعين من قبل الجنرال كاترو كرئيس للجمهورية والحكومة معا، بإصدار المرسومين رقم 49 و50 استعداداً للانتخابات النيابية، حيث تعلق المرسوم الأول بتعداد المواطنين المقيدين في سجلات الأحوال الشخصية، وما يضاف إليهم من أشخاص غير مقيدين من أصل لبناني، ومحل اقامتهم في الخارج وقد اختاروا الجنسية اللبنانية، أما المرسوم رقم 50 فقد حدد عدد النواب ب54 نائباً موزعين بنسبة 32 مقعداً للطوائف المسيحية مقابل 22
معقداً للطوائف المحمدية.

أثار المرسومان احتجاجاً اسلامياً، لأن المسلمين اعتبروه انتقاصاً من حقوقهم
في التمثيل النيابي، وطالبوا باحصاء جديد تحت إشراف لجنة حيادية ونزيهة، على أن يبنى توزيع المقاعد النيابية على أساس نتيجتها.
قسمت أزمة المرسومين اللبنانيين طائفياً بين مسلمين ومسيحيين، وراح كل فريق يحاول صيانة الوحدة الطائفية على حساب الوحدة الوطنية، وبدأت تظهر بوادر أزمة سياسية حادة.
ومع اشتداد الأزمة تحرك كل فريق للاتصال بقوى خارجية (دولية واقليمية) لكسب الدعم لمواقفه، وهذا ما اعتبرته بريطانيا فرصة سانحة للعب دور يخدم سياستها في الشرق الاوسط، حيث كانت مهتمة بإخراج فرنسا من الشرق.
ظهر التدخل البريطاني جلياً بعد فشل الرئيس بترو طراد الذي عينه كاترو بدلا من ايوب تابت في حل الازمة، حيث توصل الجنرال الانكليزي سبيرس الى تسوية تقضي بتخصيص 30 مقعداً للمسيحيين مقابل 25 مقعداً للمسلمين، فكانت هذه التسوية هي الحل الطائفي لازمة طائفية.
وبعد انتخابات 1943 النيابية دعمت بريطانيا المعارضة اللبنانية، ورفضت ترشيح أميل أده لرئاسة الجمهورية وطرحت اسم “كميل شمعون” فاضطرت فرنسا للموافقة على بشارة الخوري كمرشح إجماع، حيث تم انتخابه وكلف رياض الصلح برئاسة الحكومة، فبادرت الأخيرة إلى اقتراح تعديلات دستورية.

لكن فرنسا المنزعجة من تولي رياض الصلح رئاسة الحكومة، رفضت التعديلات الدستورية واعتقلت الرؤساء والوزارء عشية الاستقلال. كان الموقف الإقليمي (العربي) داعماً للحكومة اللبنانية حيث كانت جريدة استفهام (باشراف تقي الدين الصلح) تصدر من منزل القنصل العراقي في الأشرفيه، وكانت اذاعة القاهرة تطالب بتدخل دول الحلفاء والدول العربية لشجب التدخل الفرنسي في لبنان.
وتمكن أخيرا الموقف الدولي، المتمثل ببريطانيا والذي التقى مع الموقف الاقليمي العربي، من إلزام فرنسا باطلاق سراح المعتقلين وإعلان استقلال لبنان.
جاء هذا الاستقلال في ظل تسوية طائفية بعد أن تخلى المسيحيون عن التمسك بالحماية الفرنسية، وتخلى المسلمون عن فكرة الوحدة مع سوريا (بعد تنازل الحركة الوطنية في سوريا عن المطالبة باعادة الساحل والأقضية الأربعة الى سوريا).

إذاً بدأت الأزمة لأسباب طائفية وانتهت بتسوية طائفية رعاها ميثاق 1943 الذي حمل عنوان لا للشرق ولا للغرب. فكان الثابت الداخلي في هذه الأزمة هو العامل الطائفي، كما ان عامل الحل كان برعاية دولية واقليمية.

ثانيًا: أزمة 1958:

بعد مرور حوالي خمس عشرة عاماً تغير اللاعبون الدوليون واختلفت توجهاتهم، فاللاعب الدولي الأبرز أصبح الولايات المتحدة، التي بدأت بالتدخل في المنطقة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وأصبح تدخلها
على طرفي نقيض مع العامل الإقليمي المتمثل بالناصرية والمطالبة بالوحدة العربية.
جعل هذا التجاذب الاقليمي والدولي الحكومة اللبنانية في المحور الاميركي ، ودخل لبنان في حلف بغداد الذي انشأته أميركا لمواجهة المد الشيوعي. بينما اصطفت المعارضة اللبنانية في المحور المصري – السوري.
ونتيجة تناقض الآثار الارتدادية لهذين العاملين الدولي والاقليمي بدأت التصدعات في المجتمع اللبناني التي تشبه الفواصل بين الفوالق الصخرية بالاهتزاز إلى حد الانفصال عن بعضها البعض، وانفجرت ثورة مسلحة في 1958 متأثرة بالتوجهات الوحدوية العربية بطابعها الاسلامي ضد النظام السياسي الذي يحكمه ما سمي بالمارونية السياسية، وبالطبع كان العامل الطائفي كذلك هو العامل الداخلي الثابث.
ولم يهدأ التصادم بين الفئات اللبنانية الا بعد هدوء الصراعين الدولي والاقليمي (الزلازل) والتفاهم الاميركي المصري على انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية وانتهت الأزمة تحت شعار لا غالب ولا مغلوب. فكان الثابت الخارجي في حل ازمات نظامنا هو التفاهم الدولي الاقليمي.

ثالثاً: أزمة السبعينات؛

بعد هدوء الصراعات الاقليمية والدولية، وخمود زلازلها، لفترة حوالي العقد ونصف (1958-1973) عادت للتحرك، وهذه المرة انطلق الصراع  الاقليمي بعد انطلاق العمليات الفلسطينية ضد اسرائيل التي قامت باغتيال ثلاث قادة من منظمة فتح عام 1973، فاستقال صائب سلام، وحصلت أزمة حكم بعد رفض رئيس الجمهورية إقالة قائد الجيش وهنا عاد الانقسام الطائفي بدرجة أقوى من عام 1958. واستمرت هذه الصراعات الاقليمية (بابعادها الدولية) وارتداداتها اللبنانية لتتحول مع انفجار الأزمة عام 1975، إلى حرب أهلية دامت كذلك حوالي خمسة عشر عاماً.

رابعاً: أزمة 1988 واتفاق الطائف؛

بعد تفاقم الصراع الداخلي ووصول الأزمة السياسية الى قيام حكومتين في لبنان في ظل انقسام طائفي في الحياة السياسية اللبنانية، وبعد ان تعب الأفرقاء اللبنانيون جاء الحل الاقليمي العربي برعاية دولية مرة أخرى. فهدوء العامل الدولي جاء بعد انحسار الدور السوفياتي لصالح الولايات المتحدة التي أصبحت القطب الأقوى في النظام الدولي والتي قامت بابعاد العامل الاسرائيلي عن التدخل في لبنان. وعلى الصعيد الأقليمي بعد تحسن العلاقات المصرية –السورية وتحرك الدول العربية لمعالجة الأزمة اللبنانية خشيًة من وصول شظاياها اليها، فجاء اتفاق الطائف برعاية دولية أميركية فرنسية ورعاية اقليمية عربية تحت شعار لا للتقسيم ولا للتوطين، وتم تلزيم الحل لسوريا، فبدأت الارتدادات الداخلية بالتوقف بعد العام 1990 لمدة 15 عاماً كذلك.

خامساً: أزمة 2005؛ 

صمد اتفاق الطائف لمدة عقد ونصف العقد، لكن المواقف الدولية والاقليمية بدأت تتغير، فعلى الصعيد الدولي تغير الموقف الاميركي بعد أحداث أيلول 2001 وتوجهها إلى التدخل المباشر في منطقة الشرق الاوسط، فاصطدمت بالعامل الاقليمي الايراني الذي كان قد بدأ بالتأثير منذ الثمانينات من خلال دعمه الواضح
للمقاومة الاسلامية والفلسطينية.
ومع قرب نهاية ولاية الرئيس “أميل لحود” بدأت فرنسا والولايات المتحدة بالمطالبة بانسحاب الجيش السوري من لبنان وكان القرار (1559) الأممي الذي طالب بالانسحاب السوري، وقد جاء متعارضاً مع اتفاق الطائف الذي نظم الوجود السوري في لبنان. فكان الصدام الاقليمي والدولي والذي أدى الى اهتزاز النظام السياسي اللبناني، فتفجرت أزمة كبرى مع اغتيال الرئيس الحريري، واستمرت الترددات بين فترة واخرى الى ان هدأت عام 2008 مع اتفاق الدوحة، بعد ان تركت تصدعا مذهبياً بين السنة والشيعة أخطر من التصدع الطائفي السابق.

سادساً: الأزمة الحالية؛

أما الأزمة الحالية التي نعيشها والتي اندلعت ش اررتها في 17 تشرين أول لأسباب اقتصادية في الظاهر، فهي ليست بهذه البساطة في الأسباب ولا بهذا الوضوح في الانقسام السياسي، وإنما هي كسابقاتها نتيجة صراعات دولية واقليمية تتسبب بزلازل سياسية تضغط على التركيبة اللبنانية فتحرك أزماتها الهامدة.
هذا التصدع الكامن في الواقع السياسي اللبناني بدأ يظهر عندما بدأت عناصر ربط المجموعات اللبنانية بالتفكك بعد استقالة الرئيس سعد الحريري، بتأثير التجاذب الاقليمي الدولي الحاد بين المحور الأميركي والمحور الاي ارني. فالبعد الداخلي المتمثل بالانقسام السياسي بين ما يسمى ب8 آذار و14 آذار هو باعماقة انقسام مذهبي وطائفي (ما ظهر منه وما خفي) يمكن قراءته في الشوارع كما في وسائل التواصل الاجتماعي.
فارتدادات العامل الداخلي تتجاوب مع زلازل العامل الخارجي الناتج عن اصطدام المحور الأميركي بتحالفاته العربية بالمحور الايراني وتحالفاته الاقتصادية مع روسيا والصين، وكان لا بد للزلزال الناتج عن تصادم المحورين من أن يترك آثاره المباشرة على الواقع السياسي اللبناني والمجتمع اللبناني بشرائحه المترابطة مع
أو المتأثرة بالمحورين المذكورين.
وكما اصطدم القرار 1559 باتفاق الطائف عام 2004 رغم ما بينهما من السنوات، فان الصدام المباشر الحالي هو ما بين القرار 1701 من جهة وتفاهم مار مخايل من جهة ثانية، اللذين صدرا في العام 2006. فتفاهم مار مخايل، الذي أعلن اولاً، أكد على لبنانية مزارع شبعا وعلى حق لبنان بتحريرها، كما أورد صراحة أن حمل السلاح وسيلة مقدسة في وجه الاحتلال، وان كان قد ترك هامشاً واسعاً لحدود سلاح المقاومة بين الاجماع الوطني من جهة والظروف الموضوعية التي تؤدي الى انتفاء أسباب ومبررات حمله… وما دامت الظروف الموضوعية غير متوفرة فهذا يعني ضرورة بقاء السلاح للوقوف بوجه الأخطار الاسرائيلية، وهو ما طالب تفاهم مار مخايل بتأمين الحماية له من خلال حوار وطني يؤدي الى صياغة استراتيجية دفاع وطني ينبغي على اللبنانيين الانخراط فيها وتحمل أعبائها ونتائجها.
بينما القرار 1701 ينص على أن لا يكون هناك أية أسلحة دون موافقة حكومة لبنان ولا سلطة غير سلطتها في الفقرة 3، ويؤكد في الفقرة (8) على نزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان معيداً التذكير بالق اررين 1559 و1680، ليتشدد في نص الفقرة 9 عندما يؤكد على نزع السلاح وترسيم الحدود ثم في الفقرة 14 يطالب بمنع دخول الأسلحة أو ما يتصل بها من عتاد ومنع الدول من بيع معدات مثلها إلى اي كيان في لبنان غير الدولة اللبنانية، أي انه طالب بنزع سلاح كل الجماعات المسلحة ومنها سلاح حزب الله.
وما نشهده حالياً من اعادة الحديث عن التقارير الدورية حول تنفيذ القرار 1701 ومن عقد اجتماع مجلس الأمن بتاريخ 25 كانون اول الجاري للنظر في الوضع اللبناني وما تلاه من توجه الماني لحظر نشاط حزب الله سوى بداية هذا التحرك الزلزالي. أي أن الصدام الحالي الذي نعيشه يبدو انه سيكون بين القرار 1701 ببعده الدولي وتفاهم مار مخايل ببعده الاقليمي، ويبدو أن قوة الضغط والانقسامات التي تسببها الصراعات (الزلازل) الدولية والاقليمية أصبحت أقوى من قوى الربط والوصل التي تربط الطوائف والمذاهب اللبنانية ببعضها بعضاً، ومن أبرز هذه القوى التي يبدو أن الزلزال ضربها اتفاق الطائف .
الخلاصة: يتبين لنا من هذه الدراسة السريعة والموجزة ان هذا البلد منذ نشؤئه يقع على محور صراعات (خط زلازل) دولية واقليمية، وكلما تحركت هذه الزلازل تركت آثارها على مجتمعنا السياسي، وكلما اشتدت قوتها ضعفت قوى الوصل بين الفئات المجتمعية التي تشبه الفوالق الصخرية في الطبقات الارضية، وعندما تحدث الزلازل تصبح قوة الضغط على طول صدع معين أقوى من قوة الوصل التي تربط هذه الطوائف والمذاهب ببعضها بعضاً.
كما يتبين أن هناك ثوابت ومتغيرات في هذه الأزمات التي تتكرر بشكل شبه دوري (15 سنة) تؤكد رأينا، إذ أن هذه العوامل الثاتبة والمتغيرة تتفاعل ضمن معادلة يتغير فيها بعض اللاعبين، لكن المعادلة واحدة وثابتة.
والسؤال المطروح ما هو الحل؟ أو ماذا نعمل؟ أقول ان واجبنا جميعاً العمل على تدعيم قوى الربط والوصل التي تربط مجتمعاتنا (طبقاتنا الصخرية) حتى تمر موجة الصراعات الدولية (الزلازل المتتالية) وتهدا ثورة البركان الداخلي. فعندما تتوقف الصراعات (الزلازل) السياسية القادمة الينا تتوقف الارتدادات في لبنان وبهدأ البركان الثائر وتعود قوى الربط والوصل بين هذه المجتمعات. وعسى أن يكون الحل أكثر ربطاً لهذه المجموعات من الحلول السابقة، ويقوم على عقد اجتماعي جديد يعيد صهر مجتعاتنا في مجتمع واحد يغلب فيه الوعي الاجتماعي على الإنتماء الطائفي والمذهبي؛ عقد يقوم على التأكيدات المشتركة بدلاً من اللاءات المتبادلة التي كانت تنتهي بها الأزمات السابقة.


بيروت في 27/11/2019