البشرية اندمجت في الحقبة الرقمية .. لكن العقل يبقى سيد الأزل
خاص – “أخبار الدنيا”

بقلم العميد منذر الايوبي*
جميل، مذهل، ومريح في آنٍ، تمرير أصابعك على شاشة تكاد تكون مرمرية مع بضع نقرات على أحرف أو أرقام لتلج عالمًا آخر.
قد تسأل عن موضوع ودراسة، أو تشاهد صورًا وأفلامًا، إضافة إلى مشاركة مواقع الترفيه وتلقي أخبار المعمورة..الخ..!
ستعثر على ضالتك في ثوانٍ، تنجذب عيناك إلى المحتوى، ترى، تقرأ وتسمع، تنتقل إلى عالمٍ افتراضي بات يتجاوب مع كلِ نقاش أو استفهام أو حتى إسداء النصيحة. ثم تغوص بين الثنايا، منطلق فضول ورغبة في المعرفة، أو تذكُرٍ لفكرة سَهّت أو عَبرَت معك خفيفة النسمة عابرة…
هي الشبكة العنكبوتية، تُكبِل أهل المعمورة بمعلوماتٍ أغلبها صحيح واقعي، وقلةٌ منها غثّة أو مضلّلة. لكنها مع ذلك تمثل مرآة للإنسان ذاته؛ فكما ينقل إليها وعيه وفضوله، يُودِع فيها أيضًا نزواته، انفعالاته، وميوله إلى التزيين أو التضليل. صارت الإنترنت أشبه بمخزونٍ جمعيٍّ للعقل البشري، يختلط فيه الذهب بالرمل، والعلم بالوهم، والمعرفة بالضجيج.
أما الأخبار والوثائق فتزدحم بها المواقع وصفحات التواصل، تروي فضول باحثين عن حقيقة، وتغذي جدلآ حول وقائع وآراء، لتبقى المقالات العلمية من الثوابت، عصيةٌ على عَبَث، النقاش بها في حدود ما تتيحه التجارب والاكتشافات. وعلى هذا المفترق، تتمايز المعرفة المؤكدة عن الرأي، كما يتمايز الضوء عن الوميض.

من يَلُج الصفحات البيضاء ويطلق عنان القلم دون هوادة، في سيلان المداد تلبيةً لجريان ما اختمره العقل وأفرغته المشاعر، هو المتفوق الحقيقي. عند هذه النقطة ينهزم الذكاء الاصطناعي، لأن ما يميّز الإنسان ليس سرعة المعالجة ولا حجم المعلومات، بل شرارة الإحساس ودهشة الخلق الأول. فالإبداع لا يُستنسخ، ولا يُلقّن؛ هو انبثاق داخلي لا يُختصر في خوارزمية. قد يحاكي الذكاء الاصطناعي الشكل، ويعيد ترتيب المعنى، لكنه يبقى بعيدًا عن جوهر التجربة الوجدانية التي تصنع من النص حياةً نابضة.
العقل الإنساني حين يكتب لا يَصِف فقط، هو في اصطفاءٍ مَنبَع، انه يتألم، يتذكّر، يشتاق، يخاف، ويُحبّ — تلك الانفعالات لا تدخل في برمجة آلة مهما بلغت من الذكاء. بهذا المعنى الدقيق تكون الكتابة عملية تبادل مستمرة بين الفكر والعاطفة، بين وعيٍ يُحلّل وغريزةٍ تُبدع، ولهذا يبقى الإنسان سيد النصوص وسيد الحكاية.
لقد دخلت البشرية حقبة وجودية جديدة، تتجاوز التفاعل مع التقنية إلى الاندماج. لم تَعُد الاجهزة الذكية من هاتف وحاسوب أداة بيده، بل أصبحت امتدادًا لوعيه، تُشاركه التذكّر والتفكير والاختيار. هنا تتبدل العلاقة القديمة بين “الإنسان والآلة” من علاقة استخدام إلى علاقة تعايش معرفي. ما يُنتج عن هذا التحوّل ليس مجرد تطور علمي، بل ولادة كائنٍ جديد تخاوي عقله شريحة إلكترونية من السيليكون هي دماغ كل اداة ووسيلة..
هذه التقنيات لم تعد “خارجنا”، بل تسكننا بصمتِ الرضى. تدخل إلى تفاصيل اليوم واللغة والخيال. تغذّي العقول بالمعرفة، لكنها أيضًا تُرهقها بتدفّقٍ لا ينتهي من الصور والمعلومات. المفارقة أن هذا الفيض المفترض أن يُعمِم معرفةً ويحرر من جهل بدأ يخلق نوعًا جديدًا من العمىً، عمى الكثرة، حيث تضيع الحقيقة لِمامآ وسط زحام الحقائق.
ثم ان معنى الزمن تغير فاللحظة كافية لتجعل من حدثٍ على بساطته مُعَممآ ، والذاكرة تُختصر في أرشيف رقمي لا يَشيخ. ولأول مرة في التاريخ، يمكن للماضي أن يتغير بمجرد تعديل في “منشور” أو حذف “صورة”. بهذا المعنى، دخل الإنسان منطقة ضبابية بين الواقع والتمثيل، حيث كل شيء قابل للتحوير، حتى الحقيقة نفسها.
لكن وسط هذا الاضطراب، يبقى جوهرٌ واحد لا يمكن نسخه أو ترجمته خوارزميات، هو الوعي الإنساني. هذا الشعاع الغامض الذي لا يُقاس ولا يُبرمج ، مداه أن تدرك ذاتك، أن تشعر بالدهشة أمام المعنى، أن تطرح السؤال قبل أن تبحث عن الجواب، انه امتلاك لا يُجَيرُ لآلة: تلك الومضة التي تربط المعرفة بالعاطفة، والفكر بالروح.
في النهاية؛ إذا تجلت براعتنا والتمكن على الإبداع في الذكاء الاصطناعي، فإن الفلسفة مرآة قدراتنا على الفهم. ليبقى العقل سيد المسيرة الأزلية، لا لأنه الأقوى، بل لأنه الوحيد القادر على التساؤل عن نفسه.
نوما دام السؤال حيًا، فلن تنطفئ شرارة الإنسانية في هذا الكون الرقمي المتسارع..
———————————————
*عميد متقاعد، كاتب وباحث.
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.