الالتحام الوطني في فرنسا: المفهوم، التحديات، والتهديدات..!
بقلم العميد منذر الايوبي*
لا دِقَةَ وفق ما نُشِر في بعض الصحف الفرنسية عن فورّة غضب إنتابت الرئيس إيمانويل ماكرون لِعلمه ان تقريرآ سريآ صادرآ عن جهاز الاستخبارات (المديرية العامة للأمن الخارجي) DGSE حول “نشاط جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا” نُشِر على صفحات (الفيغارو)، ربما قارب الأمر إنزعاجآ ليتردد ان التسريب عَمدي على ما يُرَجح.. يُشار ان تسريب المعلومات او الوثائق من اساليب العمل الاستخباراتي أٰ صُرِح بها من السلطة السياسية أَم لَم.. في الحاجة اليها التالي:
*ضرورات الامن الوطني والوقائي فالحجب كما الإعلان هدفه الاساس امن المجتمع وخدمة الصالح العام.
*التأثير على الخصم لإفهامِه ان المسار قصير عليه الريبة والتهمة، خاضع لمراقبة لصيقة ونشاطه الامني مكشوف.
* كسب وقت لإكتمال استعداد في تنفيذ مهمة الاستئصال، استباقآ لعمل إرهابي قد يُرتكب من مجموعة مُدرجة امنيآ.
*إشاعة مناخ يشيد بالجهاز الامني وفعاليته، ما يمنح استقرارآ نفسيآ وإجتماعيآ لدى العامة..
*بناء علاقات مع وسائل الإعلام مقابل تعاون مستقبلي مُراد يصُب في خانة المصلحة الوطنية والامنية .. الخ..
في الوقائع؛ ترأس ماكرون اجتماع المجلس الاعلى للدفاع والامن القومي CDSN ضم رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، وزير الداخلية برونو ريتايو ، وزير الدفاع سيباستيان لوكورنو، مدير الاستخبارات نيكولا ليرنر ومعنيين، لبحث خطورة تنامي تنظيم الاخوان المسلمين ونفوذه على بعض الضواحي الباريسية حيث الاغلبية المُسلِمة عبر إقامة نشاطات تسمح بِإستقطاب مُبطن.. كما عُدَّ التنظيم وفق تقديرات اجهزة الأمن احد التهديدات المحتملة لِ “ألإلتحام الوطني” Cohésion Nationale ليس بالعنف النَشِط بل عبر “الإنفصالية الإيديولوجية” Ideological Separatism••
في مفهوم الإلتحام الوطني يقوم النموذج الجمهوري الفرنسي على مبادئ المساواة امام القانون، احترام قيم الحرية والمواطنة والعلمانية؛ ليتبين انه بات مُهَدَدآ لإنعدام توازن في السياسة الاجتماعية والخدمات دافع انقسام بين مكونات المجتمع ..!
تناول التقرير المشروع السياسي (الهَدّام) لجماعة الإخوان والفروقات بينها والجماعات السلفية “المُصاحِبّة” المعتدلة Accompanying Salafism؛ كاشفآ عن تراجع نفوذها منذ حقبة الربيع العربي على خلفية فشل مخططاتها تغيير النسيج المجتمعي والانظمة السياسية في دول شمال افريقيا والشرق الاوسط؛ موضحآ تَطَوع جيل جديد من الدُعّاة تعمل على نشر “الإسلاموية” Islamisme منشأها بدايةً النشاط النضالي على المستوى البلدي لينتقل الى الدوائر الشعبية الاوسع؛ مؤكدآ تكوين 51 شبكة من المنظمات التابعة والرديفة على المستوى الاوروبي..
من الواضح ان الجماعة تَتبِع استراتيجية طويلة الأمد بعيدة عن عنف تهدف الى تقويض مبادئ الثورة الفرنسية والعلمانية، نوع من “الإختراق الهادئ” Penetration Silencieuse للشريحة الاسلامية والهيمنة عليها بديناميكيةٍ عملية المنحى والتوجه، من انعكاساتها ارتفاع توترٍ حَدِ الصِدام مع مُكوناتها المعتدلة الرافضة او المتحفظة.. في المُحَصِلة يسعى التنظيم لخلق مجتمع موازٍ مُلتزم دينيآ، قناعاته والسلوكيات تَصُب في خانة “الإنفصال الاجتماعي” ما وضعه في عين الرقابة القضائية والأمنية..
في التحديات المُسقِطّة لِلتماسك الوطني توجِب سلسلة معالجات كابِحة تغلغل Entryism العقيدة الأخوانية، منها:
*مكافحة الفقر والبطالة والإقصاء الإجتماعي حيث يعيش غالبية مهاجرة في غيتوات مغلقة.
*إعادة الثقة واللُحمّة بين المجتمع الاسلامي والدولة عبر تلافي ومعالجة اشكاليات مطروحة كرفض الحجاب والرموز الدينية.
*مراقبة منصات الإعلام والتواصل المُشيعَة اجواء كراهية المُستقطبة إيديولوجيآ شباب الجيل الثاني والثالث من المهاجرين.
في الإرتدادات؛ إنتقادات وبعض ذعر لدى الجاليات العربية والمسلمة سواء لجهة تسريب التقرير والملابسات ام لجهة المضمون والتوصيات، فيما اهم ما لُحِظ مُقترح الإعتراف الرسمي بدولة فلسطين للحد من تصاعد الإسلاموفوبيا، حيث رأى محللين انه يساهم بوقف حرب الإبادة على حركة حماس وفلسطينيي قطاع غزة كما يَحُد من حوافز الإنتشار الاسلامي اوروبيآ..
في المعالجات ما يفرض على السلطة السياسية والوزارات المعنية التالي:
*تعزيز الحوار مع الجاليات العربية المسلمة خاصةً وقمع سلوكيات عدائية من تيارات يمينية او متطرفة تستهدفها. مع تشديد العقوبات على المرتكبين من كلا الجهتين.
*إيصال شخصيات معتدلة متزنة تُمثل الجاليات، تحيي وتُثَبِت الولاء للدولة الحاضنة جماعات فَرَت من بلادها هربآ من قمع سلطوي وحروب طائفية او عرقية.
*اقرار قوانين تكافح “الإنفصالية” مع تحديث مناهج التعليم والتربية بما يتواءم مع التغيرات الطارئة على التركيبة الاجتماعية..
*الإنفتاح على أئمة المساجد لتجديد الخطاب الديني المعتدل المستند على مبادئ السلام والتراحم والتضامن الاجتماعي..
*رصد ومتابعة مصادر تمويل التنظيم، سيما تلك الواردة من منظمات انسانية وإغاثية تمويهآ.
في الخلاصة؛ ستكون الحكومة الفرنسية امام تصدٍ جَدي لمشروع ايديولوجي ذو منطلق ديني بَحت بأبعاد دولية وسياسية ليكون الهدف الإستراتيجي حماية الامن القومي، الإنتماء الوطني وقيّم الجمهورية، مانعُ تمدد ناعم لتنظيم الأخوان المسلمين الساعي لتطبيق الشريعة الاسلامية على مُكون اساسي من الشعب الفرنسي..
*عميد متقاعد، كاتب وباحث
بيروت في 27.05.2025