الأمن الوطني بين الطمأنينة والسيادة..

خاص – “اخبار الدنيا”

 

بقلم العميد منذر الأيوبي

المشهدية: نادِلٌ في مقهى التل العليا؛ السيكارة لا تنزع من شفتين مغبرتين برمادها؛ بيده صينية صدأة الحوافي عليها بضعة فناجين من قهوة بالهال.. بمروره بين طاولات الزبائن الخشبية العتيقة، سُئِل من احدهم: هل الحال تُطمئن يا خال..؟
ليجيبه ببضعة عبارات لامست مسمعي، أخذتُ منها عبرة وفكرة دفعت لكتابة المقال:

في السعي إلى الطمأنينةٍ حفظ توازن الإنسان لِعالمٍ لا يهدأ. وإذ اختلفت الوسائل ظلّ الهدف واحدًا: أن يعيش المرء في أمانٍ داخلي لا تضعضعه الأحداث والعواصف الخارجية. ثم ان ألصراع بين الخوف والسكينة وجودي اللُب، تخوضه الروح كما تخوضه الأمم. وما لم تبلغ النفس سلامها، تبقى المجتمعات مهددة مهما بلغت من قوةٍ وعدّة.

تاليآ؛ أتت الشكوى فيما أَدْلَى بِدَلْوِهِ لِتُمثل مجتمع المدينة؛ لجهة عدم توطيد الأمن الداخلي الركيزة الأساس لاستقرار الدولة وضمان الولاء لها واستمرارها، إذ لا نهضة سياسية أو اقتصادية في -طرابلس الفيحاء- وغيرها من المدن اللبنانية..! دون بيئة آمنة تُشعِر المواطن بالطمأنينة وتمنحه الثقة بالمؤسسات والأجهزة الامنية. فالأمن ليس مجرد غيابٍ للخطر وإن كان كامنآ في حالنا اليوم، بل هو حالة شاملة تشمل الأمن الوقائي، العسكري والاقتصادي، الاجتماعي والنفسي، بما يعزز تماسك المجتمع ويحمي سيادته من التهديدات الداخلية (الجرائم المتفشية وغيرها من ارتكابات..الخ) والخارجية (العدوان الاسرائيلي ومكافحة الإرهاب).

ثم ان الطمأنينة ليست سكونًا ساذجًا كما يظنّ البعض، بل حالة وعيٍ ناضج، تتكوّن في أعماق النفس حين تتصالح الإرادة مع حدود الممكن. هي إنسجامٌ خفيّ بين الإنسان وذاته، بين العقل الذي يسعى للسيطرة والقلب الذي يطلب السلام.هي في جوهرها، ليست غياب الاضطراب والقلق بل القدرة على الإحتواء.

يرى سقراط “ان الحكمة تبدأ من معرفة النفس، ومن يجهل ذاته يبقى رهين قلقٍ لا يهدأ، مهما بدت ملامحه ساكنة”. هنا يمكن القول انه حين يتعرّف الإنسان إلى دوافعه ومخاوفه، ويقبل هشاشته كجزءٍ من طبيعته، يولد بداخله نوعٌ من التوازن الصادق؛ توازنٌ لا يُشترى ولا يُعلَّم، بل يُستخلص من التجربة كما تُستخلص الحقيقة من الرماد. الطمأنينة ليست هروبًا من الألم، بل إدراكٌ لمعناه وضرورته في رحلة التكوين.

أما الرواقيون او (اصحاب المظلة) ويطلق عليهم اللقب ايضآ؛ فقد رأوا الطمأنينة فضيلةً عقلية تقوم على الفصل بين ما يمكن تغييره وما لا يمكن تغييره. كتب ماركوس أوريليوس “أن الإنسان يبلغ السكينة حين ينسجم مع قوانين الطبيعة ويكفّ عن مقاومة ما هو خارج سلطانه”. بذلك تتحول الطمأنينة من انفعالٍ وجداني إلى موقفٍ فلسفي من الوجود؛ فالقبول ليس استسلامًا، بل وعيٌ للحدود التي تتيح للمرء أن يوجّه طاقته نحو ما يستطيع إصلاحه.

وعند نيتشه، تتخذ الفكرة منحى أكثر صرامة وعمقًا؛ فالفوضى ليست نقيض النظام بل رحمٌ يولد منه الإبداع والمعنى الجديد. فيقول، ” ان الانسان يحتاج إلى بعض الفوضى في داخله ليُنجِب نجمًا راقصًا”. وهنا تصبح الطمأنينة النتيجة النهائية لتجربةٍ مريرة، لا الهدوء الذي يسبقها. إنها صفاءٌ يُولد من احتراق، وضوءٌ لا يُدرك إلا بعد أن يختبر المرء عتمته.

في البُعد الديني، تتجلى الطمأنينة قيمة روحية مشتركة بين الإسلام والمسيحية. في القرآن الكريم: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، وفي الإنجيل: «سلامي أترك لكم، سلامي أعطيكم، لا كما يعطي العالم أعطيكم أنا». هذه الطمأنينة الإيمانية لا تلغي العقل، بل تمنحه مرجعية تتجاوز المادي إلى المطلق، فيتوحّد الأمن الروحي مع العقل السليم وهو مرجعية الأمن الاجتماعي، ليصبح الإنسان أكثر قدرة على الثبات في وجه الخوف والعوز والظلم.

هكذا تتضح العلاقة بين الأمن والطمأنينة كعلاقة جدلية لا تنفصل فيها الفكرة عن التجربة والمعاناة. فكلما ضعف الأمن اهتزّ الشعور بالطمأنينة، وكلما غابت الطمأنينة تراجعت فعالية الأمن ذاته. الأمن بلا طمأنينة يصبح قسوة، والطمأنينة بلا أمن تصبح وهمًا هشًّا.

في حالنا اليوم؛ حيث يتقاطع الأمن بالسياسة كما تتقاطع الأمواج بالصخور تجد لبنان..! إذ تبدو الطمأنينة غايةً وطنية طموحة مُرتجاة لا تقلّ أهمية عن السيادة نفسها.. ورغم ما واجه الوطن من تحديات وصدمات، اقتنع المواطن أنّ الطمأنينة ليست منحة تُعطى، بل ثمرة وعيٍ وتضحيةٍ مستمرة. وحين يلتقي وعي المواطن مع صدق الدولة، تتأسس معادلتها الحقيقية: «أمنٌ يحمي الحرية، وحريةٌ تصون الأمن».

في نهاية المطاف، الطمأنينة ثمرة وطنٍ يحيا بضمير قياداته ومؤسساته وعدالة قضائه. في عبارة واحدة “حين تتوازن الطمأنينة مع السيادة، يصبح الأمن أكثر من ضرورة؛ يصبح فلسفة بقاء”..

—————————

*عميد متقاعد؛ كاتب وباحث

المراجع:
1- نادل مقهى التل العليا القديمة وسط مدينة طرابلس.
‏2- “Nietzsche, Friedrich. “Thus Spoke Zarathustra
‏3- “Einstein, Albert. “Ideas and Opinions
4- بطرس بطرس غالي: “أجندة من أجل السلام”٠

📢 اشترك بقناتنا على واتساب
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.
انضم الآن