الأدب سلطة مضادة.. حين تُعيد الكلمة تشكيل الوعي..!
خاص – “أخبار الدنيا”
بقلم العميد منذر الأيوبي*
ويتساءلون ..! هل غاب الأدب السياسي ..؟ ماذا عن التحريض الطائفي والمذهبي الممجوج..؟ وهل بات الشارع خاضع للذباب الإلكتروني..؟ او لِما تطلقه وسائل التواصل الاجتماعي من شتائم هجاء في العام والشخصي يقارب رصاصآ متفجر..؟ الخ…
في غالبية المجتمعات واللبناني خاصةً، يتنازع الصوت السياسي مع صدى الضمير الإنساني، فيما ينهض الأدب على ندرة تداوله سلطة أخرى، لا تتكئ على إمتلاكِ قوة سلاح او مال ولا على رفعة مناصب، بل على فكرةٍ بسيطة ومخيفة في آن؛ “أن الكلمة يمكن أن تغيّر نظرة الإنسان إلى ذاته وإلى العالم”. هذه الفكرة وحدها كافية لأن تضع الأدب في مواجهةٍ مستمرة مع من يريد احتكار الحقيقة او طمسها..
ثم ان الأدب السياسي في صياغته والتعبير ليس خصمًا للسلطة بالضرورة، لكنه لا يهادن حين يُمَس الوعي العام أو تُشوّه الذاكرة الجماعية… حين يكتب المُبدِع عن وطنٍ يئنّ تحت وطأة الفساد، أو عن إنسانٍ مسحوق بين الطموح واليأس، فإنه لا يمارس ترفآ، بل يشارك في صياغة وعيٍ جديد يرفض القبول بالزيف زارعآ في اللغة بذور السؤال، وهذا جوهر التمرد الحقيقي.
هذا الجوهر ليس حكرًا على ثقافةٍ أو زمانٍ؛ فكلُّ سلطةٍ حَكَمَت فارِضةً احتكار الحرية او تقييدها، أفرزت كُتابَآ وأدباء حوّلوا الكلمات مرايا كاشفة ما يُخفى ويُرام. وحين تتشابه أشكال القمع، تتشابه أيضاً أشكال التعبير عنه، فيكتب المُبدع من أقصى الشرق أو الغرب اللغة نفسها: لغة الحرية المبطّنة بالرموز، والاحتجاج المغلف بالجمال.
في المقابل، تدرك الأنظمة أن العقول والثقافة أخطر ما يواجهها. فالفكرة تسكن كلمة، وحين تنجو من الرقابة تتحول ذاكرةً موازية للتاريخ السلطوي، تنسج سردية مختلفة صادقة، بذلك يصبح الأدب أرشيف الضمائر، يسجل ما لم يُسمح بقوله، ويمنح الهامش قدرة على محاورة المركز.
تاريخيآ، لم يكن الكاتب السياسي ولا الفيلسوف الثائر صنيعة حروب او معارك فقط، بل نتاج صوغه القناعات الوطنية والمجتمعية في العبارات والمعاني. فهو حين يتأمل السلطة لا يلعنها، بل يعرّي آلياتها، يكشف كيف تتحول القوة إلى غريزة، والخطاب إلى قناع. وحين يعجز الزعيم عن تصحيحه الأداء وتجديده الخطاب، يظل الأديب قادراً على إعادة إحياء اللغة بالمبادئ نفسها، لأنها ميدانه الأوسع.
من هنا تنشأ قيمة الأدب والأديب كسلطة مضادة فهو لا يسعى إلى الحكم، بل إلى الحِكمة؛ لا يطلب التصفيق، بل يُطالب وعي الجمهور أن “إستيقظ”. إنه سلطة بلا أدوات، ومع ذلك يترك أثرًا اعمق عَصيٌ على مَحوٍ. ثم ان النص العظيم لا يُقاس بعدد نُسَخِهِ والعِبارات، بل بمدى قدرته على إخضاع القارئ للتفكير، لا للتلقّي. وإذ يتجاوز كونه وصفًا نقديآ للأحداث والحلول، يتحول تجربة فلسفية حقيقية؛ تطرح أسئلة عمقها حدود الفعل الأخلاقي في مجتمعٍ مُدَجَن خاضع للهيمنة.
هنا ايضآ إستكشاف للعلاقة بين الإنسان والمجتمع، بين الحق والواجب، بين الواقع والمُثُل الأعلى. تصبح اللغة في هذا السياق أكثر من وسيلة تواصل، هي الفضاءٌ الرحيب للفكرِ الألِق والمقاومة العَصماء، تتيح للضمير أن يراقب ويعيد ترتيب القيم في عقل المواطن يقينآ. من خلال هذا التفاعل بين الكلمة والفكرة، يختبر الإنسان إمكانياته على الفهم والمساءلة والتغيير.
في بنية الأدب السياسي لا إكتفاء بالعبارات الجميلة أو السَرد الرصين، بل ترسيخ السلوك والالتزام الأخلاقي للكاتب، فكل موقف يتخذه تجاه القضية المُحِقة، يُكتَبُ نصًا للتاريخ والحقيقة والعدالة، ولحظة تتجاوز الكلمة إكتفاء الوصف، تصبح معيار رُقيٍ وإدراك وتحليل لصدق الالتزام بالقيم ومواجهة العُلَل… أما الابتذال فيتجلى في شعارات فارغة تحريضية أو تبسيطية مُضللة، حيث تُستغل اللغة أداة سيطرة أو تهويل بدل أن تكون أداة نَجابةٍ وفهم.
سياقآ؛ لا يقتصر الأدب السياسي على الكلمات الجادة والتحليل العميق، بل يشمل أيضًا السخرية والهجاء كأدوات نقدية فعّالة، إذ تتيح الاولى كشف التناقضات والفساد بطريقة تثير التفكير، فيما الهجاء يوجِه سهام نقد مباشر للسلطة دون التخلي عن الإبداع اللغوي. من هذه الزاوية، يأتي الكاريكاتور، كامتداد بصري يدمج الفكر والسياسة مع الفن، ملامسآ الوعي الشعبي في رسمٍ لماحٍ او مباشر يستطيع القارئ أو المشاهد فهمه بسهولة. هكذا تتحول اللغة والصورة معًا أدواتً لإيقاظ الضمير، كشف للحقائق وتحفيز للنقاش المجتمعي، دون أن تتحول مجرد وسيلة ترفيه.
في النهاية،حين تُحاصَر المجتمعات بالخوف أو التضليل، يصبح الأدب مساحة للتنفس الجَمعي. في القصيدة والرمز والحكاية، تستعيد الشعوب حقها في الكلام، وتدرك أن الحرية تبدأ من فكرةٍ تُكتب ثم تتناقلها العقول بصمتٍ أبلغ من خُطب.
من صيرورة التاريخ يُقرأ ان السُلطان والسلطة لا ديمومة لهما، بينما الأدب الحارس الأخير للمعنى والعدالة ذاكرة راسخة لا تموت، ولا تحتاج عرشآ لتستمر. عن سقوط الأنظِمة النصوص شواهد وللأجيال تُرْوَى، كانت — وما زالت — إنحيازآ إلى الذات الإنسانية أقوى من حُلكةِ ظُلمةٍ وخُردةُ حديد..!
————————
*عميد متقاعد، كاتب وباحث
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.
