إنهيار وطن (5) أدوار الاحزاب السياسية وحدود مسؤولياتها في سقوط لبنان

(في الحلقة الخامسة من سلسلة مقالات يكتبها الدكتور غسان الخالد وينشرها “الدنيا نيوز” تحت عنوان انهيار وطن يتحدث الكاتب عن دور الاحزاب اللبنانية في الانهيار الذي حل بلبنان).

 

بقلم د. غسان الخالد*

ثمة ملاحظات أساسية لا بد منها قبل الحديث عن الأحزاب السياسية في لبنان ومساهمتها في انهيار الوطن، على الرغم من أن هذه الملاحظات هي عامة، يمكن أن نسوقها حول كل الأحزاب السياسية في العالم.
أولى هذه الملاحظات هي في ضرورة التمييز بين الحزب السياسي والتيار السياسي. فالانتماء للحزب يفترض يفترض قواعد قانونية في شروط الانتماء، كما في شرط الامتثال لرأي القيادة تحت طائلة تجميد العضوية، او الفصل، او الطرد، وفقا لنوع المخالفة المرتكبة من العضو المنتمي للحزب. في حين أن التيار السياسي لا يفترض هذه القواعد القانونية، وهو يتمحور حول شخصية كارزماتيكية تعتبر بمثابة الملهم المنتسبين إلى هذا التيار. وحتى عندما يفرض التيار ضرورة الانتساب، مع بطاقة عضوية له، فإن الخروج منه قد لا يستدعي بالضرورة الخطوات القانونية الموجودة في الحزب. مع الإشارة إلى أنه وفي الأحزاب السياسية غالباً ما يتم التصنيف بين عضو ونصير ومؤيد، في حين أنه وفي التيارات السياسية قد لا يوجد مثل هذا التصنيف، او ربما ينحصر ما بين منتسب ومؤيد.
اما الملاحظة الثانية فتكمن في كيفية تداول السلطة داخل الاحزاب. وفي هذا المجال، يعتبر موريس ديفرجه، وهو من أبرز الكاتبين في علم الاجتماع السياسي، انه حتى في الأحزاب الغربية، فإن تداول السلطة يفتقد إلى الديمقراطية المفترضة، إذ غالبا ما تتم الانتخابات التي تجرى داخل الحزب، والتي تبدأ من القاعدة صعودا، لاختيار القيادة، إنما تتم بتوجيهات من القيادة العليا للقيادات الدنيا. وهنا بالذات تفقد العملية الديمقراطية قيمتها المرجوة. فإذا كانت هذه هي حال الأحزاب، فما بالنا بالتيارات السياسية المتعلقة بالشخص الكاريزمي المؤسس؟.
الملاحظة الثالثة تتعلق بالعلاقة بين الحزب والعائلة، خصوصا في الوطن العربي حيث البنية الاجتماعية،لا تزال تحافظ بشكل كبير على نفسها،ولا تزال التركيبة الاجتماعية قائمة على الذهنية القبلية. وفي هذا المجال، يمكن القول إن العلاقة التي حكمت وتحكم الحزب والعائلة، هي علاقة استيعابية من قبل العائلة أو العشيرة.ففي إطار الصراع الخفي على المحافظة على الوجود والكيان العشيرة، فإنها غالبا ما تلجأ إلى هذه الفعل الاستيعابي، وهي تملك الكثير من القدرات التي تجعلها تحافظ على وجودها حتى في ظل الدولة المركزية التي لا تعترف بها العشيرة اصلا، لكنها تتعامل معها كأمر واقع، ولذلك ووفقا لما اسميه هابتوسها، تعمل جاهدة على حسن التأقلم والمواءمة والتكيف في إطار الصراع الخفي بين الدولة والقبيلة. ولقد كتب الكثير من المفكرين في هذا المجال، كسعد الدين إبراهيم وخلدون النقيب وفؤاد إسحق الخوري، كما كتب فؤاد خليل وغسان الخالد، وغيرهم الكثير ربما، في هذا المجال.
الملاحظة الرابعة هي في تصنيف الأحزاب، بين الأحزاب الدينية والاحزاب السياسية، وبين الأحزاب المحلية والاحزاب القومية، مع التأكيد أن الأحزاب الدينية هي سياسية أيضاً.وفي هذا الإطار، أود التأكيد على أن المقدس هو أحد أبعاد الحقل السياسي على حد تعبير جورج بالانديه استاذ الأنتروبولوجيا السياسية المعروف عالميا. فالله والأموات يدخلون في نظام السلطة كما الأحياء من الناس. وبناء عليه فالمخيال الديني مهيأ جدا وفق تعبيره لأن يُجيش ويبعبأ من أجل شن المعارك المقدسة. على صعيد لبنان سوف اتعامل مع التيارات السياسية على أنها أحزاب بشكل أو بآخر.

الأحزاب السياسية في لبنان.
سوف أميز هنا بين الأحزاب ذات البعد المحلي كتلك التي نشأت مع نشأة الكيان اللبناني والتي غلب عليها الطابع الطائفي كحزب الكتائب وحزب الوطنيين الأحرار والكتلة الوطنية، والتي ضمت سابقا وقبل الطائف البعض من الطوائف الأخرى لكن بنسبة قليلة جدا، اقتصرت على بعض النخب السياسية، في إطار التحالف السياسي الذي كان موجوداً أو سائدا في ذلك الوقت. وكحزب النجادة الذي بقي محصورا في إطاره المكاني(بيروت)، كما في إطاره المذهبي (السنة). على الرغم من أن هذا الحزب قد فقد مقومات وجوده وشروط الوجود. وسوف ابدأ بالحديث عن الأحزاب والتيارات السياسية ذات البعد القومي اولا.

وهنا سوف اتناول ما يعرف بالتيارات الناصرية إضافة إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العربي الاشتراكي.
اولا :التيارات الناصرية.
من النافل القول إن التيارات الناصرية لم ترتق إلى مصاف الأحزاب، بل هي مرتبطة بشكل أساسي بشخص الرئيس جمال عبد الناصر الذي اعتبر في فترة حكمه، احد القادة الأهم لا بل الأوحد العامل على الوحدة العربية. اعتبر زعيمها المطلق، حتى أنه دخل في الوجدان الشعبي العربي في خانة المقدس. وفي إطار النقد البناء، والحقيقة التي يتم تجاهلها دوما، فإن الرئيس عبد الناصر لم يكن يعي العروبة كفكرة قومية الا بعد العدوان الثلاثي، وعملية جول جمال الانتحارية. وحتى محاولات الوحدة بالنسبة إليه لم تكن تتعدى السلطة، كما لم تصل إلى وضع خطة أو رؤية وحدوية على مستوى الوطن العربي.
على الصعيد اللبناني، نلاحظ وجود عدة أحزاب ناصرية، يظهر عليها الطابع المحلي الضيق احيانا كالتنظيم الشعبي الناصري في صيدا، او حركة الناصريين المستقلين، في بيروت، والتي أيضا يغلب عليها الطابع المذهبي مع انتشار خفيف، اي بنسبة ضئيلة في بعض المناطق اللبنانية. وهذه الحركة كانت تعتمد سابقا وخلال الحرب الأهلية في لبنان على دعم منظمة التحرير الفلسطينية، شأنها شأن معظم أحزاب الحركة الوطنية. وهي اليوم منقسمة على نفسها لجهة السلطة، كما لجهة التوجه السياسي والمواقف السياسية.
يوجد أيضا حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الذي يترأسه الوزير السابق عبد الرحيم مراد، لكن أيضآ وأيضاً، فإن هذا الحزب ذو بعد مكاني لم يستطع تخطيه. وربما التيار الناصري الوحيد الذي تمكن من الانتشار سابقا على الأراضي اللبنانية، وتخطى البعد المذهبي إلى البعد الطائفي، هو اتحاد قوى الشعب العامل برئاسة، او زعامة، كمال شاتيلا، مع الإشارة إلى أن انتشاره شمالا قد يكون الأبرز. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو حول مصير هذه التيارات الان وما بعد الانهيار؟.
أن الملاحظات التي ذكرتها سابقاً تنطبق بشكل كبير على هذه التيارات الناصرية. فعلى صعيد التنظيم الشعبي الناصري، كما حزب العمل الاشتراكي العربي، تسيطر العائلية على بنيتها السلطوية، وإذا كان بإمكان الوزير عبد الرحيم مراد توريث السلطة في هذا الحزب أو التنظيم لنجله الذي استطاع أن يمنحه لقب وزير في أول حكومة بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، كممثل عن ما سمي سابقاً اللقاء التشاوري الذي جمع بعض النواب السنة متناقضي، ومعارضي المصالح، فكيف ستكون الأمور فيما يتعلق بالتنظيم الشعبي الناصري في صيدا، كما كيف ستكون الأمور في اتحاد قوى الشعب العامل بعد شاتيلا؟. وهل سيكون الخلف كالسلف، مع التغييرات الكبيرة الحجم التي نشهدها؟. وإذا كانت هذه التيارات لم تستطع التوسع مناطقيا في فترة صعودها الذهبية، فهل سوف تستطيع التوسع في فترات الركود الحزبي الذي نشهده، والذي من أبرز علامات تراجع دور الأحزاب الأكثر انتشاراً في لبنان، وربما الأكثر فاعلية؟. اعتقد انها وفي احسن حالاتها تبقى محافظة على بعدها المحلي، وهو بحد ذاته تراجع كبير يصل إلى مرحلة الانحسار والانكفاء، وهو ما يعني فقدانها لمبرر وجودها، خصوصاً وأن المتغيرات التي نعيشها كبيرة واكبر من حجم هذه التيارات.

ثانيا الأحزاب القومية.
سوف احاول الإضاءة هنا على حزبين أساسيين هما الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العربي الاشتراكي
أ- الحزب السوري القومي الاجتماعي.
مر الحزب السوري القومي الاجتماعي ومؤسسه الزعيم أنطون سعادة بمرحلتين من العمل السياسي، سلبية في ظل مطاردة الأعضاء المنتمين لهذا الحزب من السلطة في كل من سوريا ولبنان بعد اغتيال الزعيم المؤسس، وبعد محاولة الانقلاب الفاشلة في عهد الرئيس فؤاد شهاب عام ١٩٦٢. ولمع دور الحزب في إطار الحركة الوطنية اللبنانية خلال الحرب الأهلية وبعد الاجتياح الصهيوني للبنان من خلال العمليات الاستشهادية التي نفذها مقاتلو الحزب إلى جانب بعض الأحزاب الأخرى كالحزب الشيوعي اللبناني وحزب البعث العربي الاشتراكي، وان كان الحزب الشيوعي قد تقدم نسبيا على حزب البعث في عدد العمليات المنفذة ضد الاحتلال الصهيوني لبيروت والجنوب اللبناني. لكن من الملاحظ أن الحزب قد انشق على نفسه مع دخول القوات السورية إلى لبنان بطلب لبناني، بين مؤيد ومعارض. مع العلم ان فئة منه وتسمى جناح عبد المسيح قد انشقت سابقا. هذه الخطوة الانقسامية التي استطاع الحزب تجاوزها لاحقاً، أسست لفكرة إمكانية الانقسام مرة أخرى. لقد شارك الحزب في حكومات ما بعد الطائف بشكل شبه دائم تقريبا، وان كانت حصته الوزارية قد اقتصر تمثيلها على أسماء لم يتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة.ثمة اسماء تكررت أمثال اسعد حردان وعلى قانصوه على سبيل المثال لا الحصر، والسؤال البديهي هو هل أن الحزب شارك أو أشرك في الحكومات المذكورة؟، وما هي أبعاد هذه المشاركة أو الأشواك؟.
الملاحظة الأولى أن الحزب قد انتقل من مرحلة العمل السلبي قبل الحرب الأهلية في لبنان، إلى مرحلة العمل الإيجابي خلال الحرب وبعد الطائف من خلال المشاركة في الحكومة، او اشراكه بها. من أولى نتائج مشاركته في السلطة هو خضوعه لمبدأ القرار الأكثري داخل الحكومة، وهو ما يعني التزامه القرار حتى ولو كان مخالفاً لرؤيته، وهنا بالذات تكمن خطورة المشاركة التي سوف اعتبرها اشراكا، لأنها تسلبه بعض الحرية في التعبير عن رأيه في المواضيع العامة المناقشة داخل مجلس الوزراء. وانا هنا اعتبر أن التحفظ على قرار ما، او التصويت ضده، لا يعدو أن يكون إلا تعبيرا على الورق كما يقال، إذ أن القرار الأكثري يلزم العمل بمضمونه،
ويعني بالتالي الامتثال له. وهنا بالذات أعتقد جازما أن مصطلح الاشراك في الحكومة أقرب إلى الواقع، خصوصا، في حكومة التحالف بين أمراء الحرب والبورجوازية الحريرية، او الليبرالية العالمية لا فرق. ذلك أن البرجوازية الحريرية هي جزء من هذه الليبرالية العالمية. وإشراك الحزب في السلطة هو بنظري متعمد من هذا التحالف المذكور، لأنه هدف إلى أبعاد الحزب عن دوره القيادي في النضال الجماهيري كما يسمى، واوجد صراعاً خفيا داخل الحزب على التوزير، كما أسس لخلاف لاحق نشأ عن تداول السلطة في الحزب وهو ما شهده الحزب ونشهده منذ الانتخابات الأخيرة، التي أن دلت على شيء فإنما تدل على مدى الشرخ الذي أصاب الحزب، وان لم يصل هذا الشرخ إلى مرتبة الشرخ البنيوي، لكن تداعياته ستشكل لاحقا وفي حال حلت الخلافات حول السلطة داخل الحزب، ستشكل قاعدة يبنى عليها كما حصل سابقا مع ما سمي في الثمانينات المجلس الأعلى مع الأمين خليل دياب رغم أن الخلاف قد حل فيما بعد، لكن آثاره وتداعياته لا تزال كامنة تحت الرماد، وهو واقع الحال الآن رغم وجود مؤسسات دستورية في الحزب ربما تشكل علامة فارقة عن بقية الأحزاب.
٢-حزب البعث العربي الاشتراكي
لا يختلف واقع حال هذا الحزب عن الحزب السوري القومي الاجتماعي. فقد شارك في حكومات ما بعد الطائف أو أشرك بها مع تفضيلي لمبدأ الاشراك للهدف نفسه. أربعة وزراء من حزب البعث شاركوا في الحكومات الحريرية، ثلاثة منهم ينتمون إلى الطائفة الشيعية لأن الحريري كان يرفض أن تكون حصة الحزب من الطائفة السنية باستثناء الوزير غازي سيف الدين. وواقع الحال أيضا أن هذا الحزب، وانا اقصد هنا الحزب الذي يسمى اصطلاحا الجناح السوري، ذلك أن جناحا آخر من الحزب يطلق عليه الجناح العراقي، وهو نتج عن الانقسام منذ ستينيات القرن الماضي على قاعدة اليمين المتطرف واليسار المتطفل، الذي قاد المؤسس ميشال عفلق إلى العراق، وواقع حال هذا الحزب الان هو الانقسام في السلطة ما بين قيادتين قطرتين كلاهما تدعي دعمها واحقيتها. وهنا أيضاً يصبح التساؤل عن مصير هذا الحزب في لبنان مشروعا كما بقية الأحزاب في ظل ما تعانيه من انقسام لم يصل إلى مرتبة الانقسام البنيوي لكنه بالتأكيد سيترك آثاره وتداعياته السلبية على وضعها في ضوء المتغيرات المستجدة التي قد تحصل.
هكذا أرى أن واقع الأحزاب اللبنانية قد بدأ انهيارا تدريجياً مع بداية مشاركته في السلطة أو اشراكها، فالأمر سيان طالما أن الهدف المرجو والقاضي بإبعاد هذه الأحزاب عن ما سمي النضال الجماهيري قد تحقق. إشارة هنا إلى أن حزب البعث العربي الاشتراكي لم يستطع رغم انتشاره على كافة الأراضي اللبنانية أن يحقق كالحزب السوري القومي الاجتماعي، وكغيرهما من الأحزاب اي خرق فعال على مستوى العائلة والعشيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأحزاب غالبا ما لا تحبذ هذا القول أو هذه العلاقة رغم أنها تلجأ إليها في بعض الأحيان، او تبني عليها في كثير من الأحيان من خلال الأشخاص الذين يشكلون رمزا اجتماعيا في العشيرة، او الذين يمتلكون جاها يسمح لهم بالتأثير في بعض الأمور التي تعني هذا الحزب أو ذاك. وعليه فإن واقع هذه الأحزاب، وطالما انها لا تملك رؤية استراتيجية للتعامل مع المتغيرات التي نعيشها، او تلك القادمة، وبغض النظر عن ظروف النشأة، وأهمية الدور الذي لعبته سابقا وفي مراحل مهمة من تاريخ لبنان، فإن الأمور ذاهبة إلى الانهيار كما هو الحال مع سائر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.