أين هو؟…

 

بقلم : د. محمد إقبال حرب*

 

لقد كان هنا منذ وصولي، صلبًا، قويًا، صامدًا. كان مع إخوانه الثلاثة، قلعة أتحصّن بها منذ أن أجبروني أن أبيت هنا معزولًا. كنت مع تسعة زملاء في غرفة لا تزيد رحابة عن هذه منذ أن ألقي القبض عليّ بتهمة التفكير. لكن ما زاد الطين بِلّة هو تهمة البشرية، تهمة جعلتني أفكر بطلب تغيير كينونتي إلى كلب. البشرية مهددة بالانقراض كما قالوا، لأنهم اشتبهوا بكائن صغير، يحاول احتلال جسدي المرغوب لأنواع المجهريات. وللحفاظ على عينات بشرية تواجه القدر من أجل البقاء، قرروا عزلي وفرض رقابة مشددّة على الهواء المتسلل إلى هذا الحيِّز الصغير. كم أشعر بالأسى لو اختفى البشر وبقيت أنا حاملًا لواء تجديد النسل.

هذا الصباح، لم أجده. من سرق الحائط الرابع؟

الغريب هو أنني أرى ثلاثة حيطانٍ فقط لكن لا يمكنني الخروج من ذاك الفراغ. شيء ما يمنعني، لكنه غير موجود. قمت بالتحاليل المناسبة، لا لون ولا رائحة ولا ملمس. هل أُصبت بالهذيان؟

لا يهم. المهم أن القرار صدر بالتزام الحظر خوفًا من كائن لا يُرى، مجهري متوج بزخارف ملكية. لا أفهم كيف يهابونه لدرجة سجن بلايين البشر ككائنات حديقة الحيوان. لم يحجروا علينا أو يحجزوننا يوم كانت الطائرات تقصف المدن والقرى! لم يقوموا بحمايتنا يوم كانت كتل الجحيم تنير الليالي لتحرق بيوتنا! لا أفهم لماذا علينا أن ننعزل اليوم مع إن ضحايا هذا الوباء أقل بكثير من ضحايا قصف مدينة.

مسكين هذا الكوفيد-19 المتهم بالقتل، ضحاياه على الكوكب برمته خلال أشهر ثلاثة أقل بكثير من ضحايا سقوط بغداد في ليلة واحدة. أقل بكثير من موسم المجاعة في الصومال قبل عقود، أو حرب الإبادة بين التوتسي والهوتو في رواندا. لم يكترث أحد للإبادة، أو لأي شعب فقير سطت عليه جائحة الاستعمار منذ قرون. لم يفكر أحد باختراع مصل يقي الضعفاء شر تلك الجائحة، أو يقتل جراثيم الصهيونية ليتوقف سمُّها الزعاف. هذا عدا عن متلازمة الاستبداد المحلية التي تسري في بعض الأسر كمتلازمة مصاصي الدماء الوراثية.

لا عليكم، المهم هو أنني وُضعت في هذه الغرفة، خوفًا على زملائي المساجين من أن يقتلهم الوباء قبل تلفيق تُهم تليق بهم. وحفاظًا عليّ كوني، من فصيلة نادرة يخافون اندثارها تم عزلي. بعد الأسبوع الأول شعرت بمؤامرة. خفت أن يحتلني الجرثومي الصغير بإيعاز من الجرثومة الكبرى فيصادر غرفتي هذه التي منحني إياها من يهمه أمر حياتي لسبب لا أعرفه. ستتم سرقة المحتويات وأُتَّهم ببيعها فيحاكمني أنكر ونكير قبل البدء بمراسم الدفن. دوّنت كل صغيرة وكبيرة في هذه الغرفة: أربع حيطان، فراش اسفنجي، مخدة وغطاء من بقايا السجون العثمانية، حمام بدون باب، وحنفية. نعم، هناك منشفة وصابونة وشيء يشبه الكرسي. لا بد من الإشارة على أن الباب أقصر مما يجب، ربما من أجل دسّ علب الطعام أو تمرير بعض القوارض. فالسجّان يخاف من أن تحتلني تلك الجرثومة الصغيرة، علمًا بأنه لم يتورع عن ضربي وإذلالي خلال إقامتي الطويلة التي لم يحدّد سببها بعد. عصر الكورونا أجبره على نقلي إلى السجن الانفرادي رغمًا عنه. طالبت في السابق أن أشارك خمسة اشخاص في غرفة من نفس الحجم، لكنه كان اجتماعيًا فأصر على تواجد عشرة أشخاص في حيّز كهذا. حلّل فعلته بأن الفرد لا يحتاج لأكثر من متر واحد للوقوف، والاستحمام الجماعي له أجره كصلاة الجماعة.

في مقصورتي عيب واحد، إنها بلا نافذة. لا ليس عيبًا فهم يخافون أن يفكر رجل هرم مثلي بالهرب من فيروس كوفيد-19 فيقفز من النافذة كلص محترف. ربما كانوا على حق، فقد حذّر علماء البيولوجيا من سطوة الفيروس وتأثيره على إداركنا. قالوا بأن كوفيد له ذائقة تشبه ذائقة دود التفاح. فدود التفّاح يهاجم التفاحة الناضجة الطرية ليستمتع بحلاوتها وطراوتها. وأنا هرم، استوفي الشروط رغم السموم التي تحتلني قبل كوفيد. قال لي المحقق بأن أكبر السموم التي أعاني منها كانت أفكاري التي اعتبَرها جائحة تهدد النظام العالمي.

عندما لم أجد نافذة في غرفتي انتابني الهلع. رسمت على الجدار المواجه لفراشي المزعوم نافذة يتخللها نور من شمس بعيدة تظهر كذبابة منيرة عند زاوية النافذة. أحيانًا أرسم بعض العصافير، كي تغرد بحكايا أناس لا أعرف إن كانوا على قيد الحياة، أم في قيد الراحلين.

لكن من سرق الحائط ونافذته؟ لماذا لم يسرقوا الحائط الآخر؟

حاولت الخروج من الفراغ المزعوم لكن دون جدوى. حاولت أن أشتكي للحارس المنوط بحمايتي فصرخ: حتى الحائط لم ينجُ من اجرامك؟ قلت أرجوك، فأنا خائف من الأخ الأكبر لكوفيد.

لم يكترث.

قررت أن أنام في الحمام لأتوارى من أخطار جمّة تخايلتها بعد اختفاء الحائط. صحوت ليلًا لأقضي حاجة بشرية فلم أجد الحمام. اختفى بحيطانه وعدته، كما تلاشت حفرة الراحة فأضحت الأرض مستوية. سارق الحائط استولى على منتجعي الوحيد الذي يشعرني بالراحة. تسارعت متطلبات بشريتي، تسارع نبض قلبي الخائف من سارق الحيطان. تهمة السرقة والسلَس قضيا على حكمتي فقررت أن أنتحر بضرب رأسي على الحائط.  فالموت الممنهج أقل قسوة من الموت على أيدي زبانية الحاكم ولصوص الأبواب. وصلت إلى مكان الحائط المسروق وبدأت بنطحه كتيس مدرّب على العيش ككرّاز قطيع. مع كل ضربة ونطحة في صميم الحائط تجتاحني نشوة غريبة بالنصر. لكنني لم أمت، لم أشعر حتى بدوار. وقفت بشموخ لأعلن فوزي فلم أجد إلا ظلامًا، مددت يدي فلم أتحسس جمادًا. لقد سرقوا كل ما تصله حواسي. صرخت فضحك الصدى، وهلل الحارس منتصرًا. جاءني كوفيد-19 منقذًا على مركبته الملكية ليقدم لي تاج ولائي. نادى، ونادى: يا بني اركب معنا.

قلت: دعني ها هنا مع الكافرين.

—————–

*أديب وروائي