هل في عروق اللبنانيين دماء؟
بقلم : عباس صالح*
بات من الواضح جلياً، بعد مشهدية الأمس في شوارع بيروت وطرابلس والنبطية، أن المواطنين اللبنانيين وغالبيتهم الساحقة في وادٍ، والطبقة السياسية برمتها وعلى اختلاف مكوناتها في وادٍ آخر، بعيد كل البعد عن مآسي الناس وأوجاعهم ومقومات عيشهم في هذه البلاد المنكوبة.
بات الناس حانقين حتى على انفسهم، بسبب الخديعة الكبرى، التي تعرضوا لها خلال الانتخابات النيابية التي جرت قبل سبعة أشهر، والتي قدمت في خلالها الطبقات السياسية المختلفة وعوداً والتزامات وكادت تقسم بأغلظ الايمان أن تلك الانتخابات ستكون آخر محطة من محطات الانتظار على قارعة بناء الدولة في لبنان، وأن الايام الآتية على هذا الوطن الصغير ستكون أياماً مشرقة، بفعل المقاربات المختلفة لإدارة الكيان المبتلى بأمراض مزمنة، ليس أقلها السرقات الضخمة لموازنات الدولة وخزينتها، مما يطلقون عليه قصداً تسميات وهمية، لتلطيف الامر وتبليعه للمواطنين كتسمية أعظم سرقات العصر ب”الفساد” و”الهدر” و”التجاوز” و”الرشوة” وما الى ذلك من مفردات يستخدمونها بخبث للتهوين من جرائمهم المتمادية.
العينة التي خرجت أمس من المواطنين أرادت أن توصل صرخة كل اللبنانيين، والى ما بعد الفضاء الكوني ربما، بعد أن صُمَّت آذان الخارج والداخل، للقول ، وبكل صراحة، بأننا جميعاً بتنا أسرى أمراضنا وغرائزنا الطائفية التي تقودنا كسجان يستعبد سجينه الى صندوقة الانتخاب، لنختار بإسم الطائفة والحفاظ على حقوقها، طبقة تسرق منا قوت أولادنا وتعليمهم وطبابتهم ومستقبلهم علناً، وترمي النفايات في وجوهنا، وعلى الطرقات، لأن لا حل لديها، ولا وقت لديها لتفكر بالحلول، وتحرمنا من أبسط حقوقنا المعيشية علناً، وتمارس عنجهيتها بكل صلافة، فتمنع عنا الكهرباء المتاحة عنوة لتخيرنا بصفاقة غير مسبوقة بين الظلام، او السكوت والموافقة على صفقات شبه علنية لإستجرار الطاقة الكهربائية البديلة بأغلى الاثمان العالمية سواء عبر البواخر او المولدات! كما تقطع عنا الماء علنا، لتبيعنا مياهاً تدخل ضمن صفقاتها الكبرى في بلد عائم على ثروة مائية.
جزء من هذه الطبقة يعقد الصفقات المعلنة مع شركات الدواء لتبيعنا دواءً دون فاعليته بأسعار هي الاغلى في العالم، وبأضعاف تصل الى الالف بالمئة في بعض الاحيان، ويخترع النظريات السخيفة، التي يحاول من خلالها تربيحنا الجميل، بأنه يمنحنا الشرف بأنه يسرقنا علناً، وانه يحصل على حصته كما حصل غيره، حتى انه لا يجد غضاضة في فبركة نظريات خنفشارية كاذبة وسخيفة وساقطة من قاموس العقل الانساني، وهو يعرف مسبقاً بأنها لا تنطلي على أحد، لكنه يفعلها استخفافاً واستهانة بالمواطنين وعقولهم المريضة.
هذه الطبقة السياسية، توافق بمجمل مكوناتها على ان يُرمى كل مريض فقير ليموت أمام ابواب المستشفيات الموزعة فيما بينها بالقسطاس، ولا تستقبل إلا الاغنياء ممن يدفعون نقداً، وقد زادت الاعباء بعد ان أصبح جل طالبي الاستشفاء قادمين من خارج الوطن، ما يعني انهم يدفعون نقداً، وبالعملات الصعبة، وهو ما قلص حجم الأسرَّة الفارغة حتى للميسورين من اللبنانيين في مستشفيات الوطن.
وكذلك هو حال المؤسسات التعليمية الخاصة التي تملكها الطبقة السياسية المتشاركة والمتماهية مع الطبقة الدينية، ومن خلالها تستنزف مالية الدولة، سواء عبر موازناتها الضخمة الممولة من الحكومة عبر وزارة التربية، او من خلال المنح “الفاجرة” التي تتقاضاها من ابناء منتسبي الوظائف الرسمية والاسلاك عن اولادهم، مع ما يعنيه ذلك من مضاعفة المبالغ المطلوبة لتفسيمها على دائرة المستفيدين، ولذلك نرى ان السياسيين مصرين على ضرب التعليم الرسمي بلا رحمة بالفقراء.
يمنعون عن اللبنانيين برامج الرعاية الصحية للمسنين والعُجَّز وسواهم ويصرون على تعدد الصناديق الضامنة الممولة من الدولة لتبقى مزاريب سرقات ضخمة لهم ، وبهدف الابقاء على شركات التأمين الخاصة التي يملكونها.
اما الكلام عن الضرائب التي تكوي المواطنين على كل شيء، فحديث طويل، يمكن تلخيصه بعبارة واحدة ان اهم دول العالم من حيث التقديمات الاجتماعية ودخل الفرد، لا تتقاضى ضرائب من مواطنيها توازي حجم الضريبة التي تفرضها هذه الطبقة السياسية على مواطنيها في لبنان.
واذا اردنا تحليل الواقع فإن هذه الطبقة تعتمد فرض ال “خوة” على مواطنيها وليس مبدأ الضريبة العادلة، لأنها تحصِّل من المواطنين اموالاً مفروضة عليهم بالقوة لتوزعهم كمعاشات ورواتب وموازنات على أركانها ومجالسها وصناديقها الخاصة والتنفيعية، من دون ان تقدم في المقابل اي خدمة موازية للمواطن.
حتى الامن، لا تقدمه هذه الدولة لمواطنيها اذ ان اللصوص يسرحون ويمرحون في كل البلاد من دون ان يجرؤ أحد على ردعهم لانهم محميين من بعض السياسيين أيضاً، واذا وجد من يردعهم فيسكتونه على طريقتهم، إما من خلال تهديده، من خلال تقاسم بعض الغلال معه.
اما الطرقات وصيانة البنى التحتية فلا تتم الا في سياق التنفيعات السياسية على المحاسيب والازلام وبعد الف واسطة وواسطة.
هذه الطبقة السياسية التي جعلت من لبنان صحراء منهوبة، وداست شعبه وجعلته يئن تحت أقدامها من دون ان تقيم له اي وزن او احترام، على اعتبار انها تعرف نقاط ضعفه وأمراضه الطائفية والمذهبية، وتعرف كيف تأتي به طائعاً الى الانتخابات ليجدد لها البيعة في حينها، ها هي اليوم في وادٍ بعيد عن صرخات اللبنانيين، يفكر بعضها بخبث ودهاء كيف يحتال على شركائه الاخرين، ليحصل على ثلث تعطيلي في الحكومة العتيدة، كي يحكم قبضته ملياً على البلاد، ويسيطر اكثر على مقدراتها، ويفرض على الاخرين رؤيته في المحاصصة، ويتمةن بالتالي من صناديق الدولة وخزائنها، ولذلك نراهم يستقتلون ويختلفون فيما بينهم على تناتشنا بهدف مص آخر قطرة من دمائنا.
فهل ما زال في عروقنا دماء؟؟؟
*رئيس التحرير