هل تتحوّل الحرب في أوكرانيا إلى صراع مُجمَّد على الطريقة الكورية..؟
بقلم العميد منذر ألأيوبي*
تتقدّم في الأسابيع الأخيرة فكرة “إطفاء نار الحرب” عبر هدنة طويلة ترسم خط التماس العسكري واقعيًا وتؤجّل الحلّ النهائي. المقاربة الأكثر تداولًا على ما يبدو هي نموذج الهدنة الكورية (1953) “وقف لإطلاق النار، خطوط فاصلة مُسيّجة، وضمانات أمنية خارجية، فيما تبقى القضايا السيادية مُرَحّلَة لعقود”. فهل تنطبق هذه الصيغة على أوكرانيا اليوم..؟
تستند الدعوات إلى “النموذج الكوري” على عوامل متداخلة. فمن الناحية الميدانية، وبعدما تبادلت موسكو وكييف جولات هجوم ودفاع خلال 2024–2025، تشير التقديرات إلى جبهة مستقرة نسبيًا مع تقدّمات محدودة وبطيئة، ما يرفع كلفة أيّ حسم عسكري شامل ويُغري بخيار تجميد القتال. أما دبلوماسيًا، فتتحدث رسائل أمريكية- أوروبية عن ترتيبات أمنية لأوكرانيا، بعضها يشبه “مظلّة ردع” “Deterrence Umbrella مشتقة من المادة الخامسة لميثاق حلف شمال الأطلسي ولكن بترسيمات خاصة، وهو ما أُشير إليه في أعقاب قمة ألاسكا والاتصالات التي تلتها بين واشنطن وكييف. تزامنآ تدفع الأخيرة باتجاه إطار تمويلي وتسليحي مُستدام مع انخراط متزايد في الصراع الماني- فرنسي ولو بصورة غير مباشرة، ما يعني محاولة بناء “توازن ردع” أوروبي طويل الأمد حتى من دون معاهدة سلام.
التشابه مع شبه الجزيرة الكورية يظهر بوضوح “هدنة بلا سلام نهائي”، شبه تماثل ميداني-جغرافي بين خط العرض 38 الفاصل بين الكوريتين وخط عرض متوسط حوالي 48° شمالًا منزوع السلاح ومراقب تقنيًا يفصل بين حدود المقاطعات التي ضُمت إلى روسيا وباقي الأراضي الاوكرانية،، مع ضمانات خارجية تحل مكان العضوية المباشرة في (الناتو). غير أنّ الفوارق كبيرة، فالأوكرانيون سيطالبون بحدّ أدنى من انسحابات أو اعترافات تحافظ على قابلية الدولة للحياة، بينما ستتمسّك موسكو بمكاسبها. كما أنّ الصراع هنا بين دولتين ذات سيادة، على عكس شبه الجزيرة الكورية حيث كان المشهد حربًا أهلية مدعومة خارجيًا. يضاف إلى ذلك أنّ أوروبا متداخلة اقتصاديًا وسياسيًا مع أوكرانيا، ولن تحتمل منطقة منزوعة السلاح جامدة لعقود. دون كلفة سياسية واقتصادية، فضلًا عن أنّ التكنولوجيا العسكرية الحديثة تجعل التجميد هشًا أكثر بكثير من خمسينيات القرن الماضي
سياقآ؛ يبرز اللقاء الاستثنائي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، كعنصر جديد في المشهد الدولي. فقد حمل اللقاء رسائل مزدوجة، من جهة إشارة إلى أنّ واشنطن تفكر في ترتيبات كبرى مع موسكو، قوامها ضبط التصعيد وإبقاء المواجهة بحدها الادنى تحت سقف “الردع المُدار” Managed Deterrence ومن جهة ثانية، فتح المجال أمام “صفقة أوسع” Wider Deal اعتاد إتقانها الرئيس ترامب ، تشمل خطوط التماس مع أوكرانيا مقابل تفاهمات استراتيجية حول الحدّ من التسلّح النووي والانتشار في القطب الشمالي.
في خلفية هذه التطورات، تتباين الاستراتيجيتان الأميركية والروسية بما يعكس جوهر “التوازن القلق” Anxiety Balance فواشنطن تسعى إلى منع موسكو من تحقيق نصر كامل يغيّر ميزان القوى في أوروبا، ضمن تكتيك “إدارة الصراع” Conflict Management، عبر تسليح مقنن يضمن صمود أوكرانيا ويحافظ على وحدة الموقف الغربي، من دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة.
توازيآ، ترتكز الاستراتيجية الروسية على “تثبيت المكاسب” Stabilization Gains الميدانية وتحويلها إلى أمر واقع، مع فرض معادلة جديدة في الأمن الأوروبي. بين هذين المنظورين يتحدد مستقبل “النموذج الكوري” معدلآ. هل يكون تجميدًا تحت سقف الردع الغربي.؟ أم تكريسًا لمكاسب روسية طويلة الأمد..؟
مما لا شك فيه ان تثبيت الأمر الواقع الحالي دون تحديد فترة زمنية انتقالية، قد يرفع منسوب التوتر والمواجهات الحدودية من حين لآخر ، فيما ينقسم الرأي العام الأوكراني والغربي بين من يرى الهدنة إنقاذًا للدولة، ومن يعتبرها تنازلًا مؤلمًا. كما أن أي خلل في التمويل أو تبدّل سياسي في مراكز القرار الغربية قد يعيد الحرب إلى المربّع الأول. لذا تحذّر قراءات تحليلية من أنّ وقف النار لن يأتي تلقائيًا، وأن جولات التصعيد قد تسبق أي تثبيت للهدنة.
في الخلاصة. نجاح السيناريو الكوري يتوقف على ثلاثة مفاتيح أساسية: ترسيم واضح للحدود، ضمانات قابلة للتنفيذ، ومظلة تمويل وتسليح مستدامة. من دونها، سيبقى “التجميد” مجرد استراحة محارب لا أكثر.
——————————
*عميد متقاعد، مختص في الشؤون الامنية والاستراتيجية.