ماذا يعني خروج الطراد “موسكفا” من الخدمة؟
خاص – “الدنيا نيوز”
بقلم : د. زياد منصور*
ظهر الكثير من التحليلات حول غرق الطراد “موسكفا”، وتم الترويج لذلك باعتباره نصراً عسكريا كبيراً لأوكرانيا في مواجهتها مع الغزو الروسي، وحتى اليوم لا تكاد تنقط مثل هذه التحليلات –التأويلات التي تعتبر الحدث وهو بلا شك حدث كبير، باعتباره بداية هزيمة لكل الخطة العسكرية الروسية في أوكرانيا، واعتبار كل العملية من الناحية السياسية خطأ روسي فادح، بل غرق روسي في الوحول الأوكرانية يقارنه البعض فيما جرى في أفغانستان
بعيداً عن السياق التاريخي والجيوسياسي لمنطق العمليات العسكرية الجارية اليوم أوكرانيا، وبعيداً عن نتائجها التي تظل مرهونة بنهاية الصراع ، فإن المقاربات والتحليلات لا تزال تقوم على نفس القواعد والمبادئ وهي شيطنة العدو وإظهار ثغراته وتحميله أعباء كل ما يجري، على الرغم من أن النتائج الأخرى للسياق العملياتي يظهر ايضاً نتائج ليست بالسيئة بالنسبة للطرف الروسي على الأقل، ويظهر أن الآداء الروسي العسكري والسياسي لا يزال يسير على نفس الوتيرة ودون تراجع عن الهداف المعلنة ولو قيد أنملة، وهذا بحد ذاته أيضاً يحتاج إلى روية وعقلية ناضجة وذهنية متفتحة لمناقشته واستيعابه، و يتطلب دراسة أعمق للذهنية الروسية والروحية الروسية التي تبدو إلى الآن عصية على الانتروبولوجيا الغربية.
هكذا فإن غرق الطراد الروسي دون شك أحدث نكسة معنوية كبيرة كما عبرت عن ذلك الكثير من الصحف الروسية، فيما وسائل الاعلام في كييف اعتبرته تطوراص وتحولاً كبيراص في طبيعة العمليات.
وبعيداً عن ذلك لا بد من التذكير أن الطراد “موسكفا” خضع في في العامين 2018-2020 لاصلاحات وعملية تحديث، لكنها لم تكن عميقة، كتلك التي جرت على الطراد “مارشال أوستينوف”، والذي تم تحسينه وتطويره بشكل كبير جداً.
كان الطراد “موسكفا” يخضع لإصلاحات محدودة، في بعض الأحيان كان يستخدم تعبير “عناصر تحديث” في توصيف هذه الإصلاحات، فهو لم يزود بعدد من أنظمة القتال الحديثة، كما لم يتلق أنظمة إطفاء حديثة، وربما كان هذا أحد العوامل التي أثرت على قدرة الطاقم على مكافحة الحريق.
من غير المرجح أن يكون لهذا الفشل المتمثل بغرق الطراد “موسكفا ” تأثير على الأعمال العسكرية في أوكرانيا، خصوصاً أن هذه العمال تجري في الميدان، أي ذات طبيعة ميدانية على الأرض، وكان دوره في الأساس يقوم على توفير المعلومات من نظام الرادار الخاص بها إلى بقية المجموعة البحرية (لدى الطراد نظام رادار قديم ولكنه قوي إلى حد ما). وإذا فترضنا أن الحريق كان نتيجة لعمل عدواني، الأمر الذي نفته روسيا فهذا يعني حقيقة مؤكدة أن أوكرانيا تتلقى معلومات استخبارية واحداثيات من دول الناتو، ولهذا ارتدادات كبرى كما علق على ذلك العديد من المتابعين الروس.
في كل حال، من المهم مراجعة برامج التدريب القتالي على الأقل. وإذا ثبت أنه تعرض لإصابة بصاروخ كروز، فإن الأسئلة يجب تثار حول التدريب القتالي لقوات الدفاع الجوي ومدى استعداد الطراد لصد الهجوم، خصوصاً أن الطراد موسكفا كان من أكثر السفن في الأسطول مزوداً بوحدة للدفاع الجوي وإن لم تكنمن الأحدث.
الطراد موسكفا (Moskva) دخل الخدمة في عام 1979 تحت اسم سلافا (Slava ) أي المجد، أعيد تسميته في عام 1996 ، إلى جانب الطرادات الماريشال أوستينوف، وفارياغ ، هو واحد من ثلاث سفن أنشئت ضمن مشروع أتلانت 1164 ( Atlant )، أي طرادات الصواريخ السوفيتية متعددة الأغراض المزودة بأسلحة صاروخية موجهة للبحار والمحيطات البعيدة. وفقًا لذلك، تم التخطيط لبناء ثلاث سفن أخرى وهي (“ثورة أكتوبر” و “أميرال أسطول الاتحاد السوفيتي جورشكوف” و “كومسوموليتس”)، ولكن تم إلغاء بناء أول سفينتين في عام 1990، وبقيت الأخيرة في حالة غير مكتملة (بنسبة 95%). بعد تقسيم أسطول البحر الأسود لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية صارت كومسوموليتس من نصيب البحرية الأوكرانية.
يبلغ عدد طاقم الطراد، حسب المعلومات الموجودة على الموقع الإلكتروني لوزارة الدفاع الروسية (تاريخ النشر غير محدد)، حوالي 650 فرداً.
في عام 2008، شارك الطراد في عمليات في جورجيا. في آذار 2014، شارك مع سفن أخرى تابعة لأسطول البحر الأسود، في حصار البحرية الأوكرانية في خليج دونوزلاف. في عام 2015، قدم غطاءً لمجموعة طيران تابعة لقوات الفضاء الروسية في سوريا.
في شباط 2022، خلال العملية الروسية في أوكرانيا، شارك في عملية السيطرة على جزيرة زميني. “كجزء من العملية الخاصة للقوات المسلحة الروسية، التي تجري في أوكرانيا، نفذت عدد من السفن الرئيسية لأسطول البحر الأسود، بالإضافة على الطراد “موسكفا” مهامًا في منطقة جزيرة الثعبان-زميني. في 24 شباط، طُلب من الجنود الأوكرانيين المتمركزين في الجزيرة الاستسلام … بعد ذلك، قرر الجنود من جزيرة زميني إلقاء أسلحتهم والاستسلام. ومع ذلك، سرعان ما تم نقل جميع الأفراد من جنود البحرية الأوكرانية والبالغ عددهم 82 شخصًا أحياء دون أن يصابوا بأذى إلى سيفاستوبول. لم يقم الطراد بدور جاد في العملية الخاصة الحالية، حيث كان من المستحيل إطلاق النار على أهداف أرضية بصواريخ “بركان” (فولكان).
يؤكد بعض الخبراء الروس أن ” ثلاثة طرادات من مشروع 1164 –موسكفا ومارشال أوستينوف، وفارياغ – كانت بمثابة الأفيال البيضاء التي يمكن لروسيا إرسالها للمشاركة في التدريبات الدولية لضمان وجود دائم قبالة السواحل السورية. ونظرًا لأنها تمتع باستقلالية كبيرة، فقد بدت جيدة. “بالنسبة للطراد” موسكفا “، قبل فترة طويلة من العملية الخاصة، كانت تحل قضية اخراجه من الخدمة، ولذلك فإن خسارة هذه السفينة هي خسارة فقط من حيث هيبة سلاح البحرية في أسطول البحر الأسود. في الممارسة العملية لا تغير كثيرًا بالنسبة لروسيا إن غرق موسكفا باتت حجة قوية لصالح التعجيل بإيقاف تشغيل السفن السوفيتية الكبيرة القديمة، وهنا يجري الحديث عن الأدميرال كوزنتسوف وطرادين آخرين من المشروع 1164، وكذلك السفن الكبيرة المضادة للغواصات من مشروع 1155. “لا يزال من الممكن استخدام طرادات صواريخ المشروع النووي الثقيل 1144 مع تحديثها العميق، ولكن يجب التخلص من الباقي”.
يذهب آخرون إلى اعتبار أن هذه هي أكبر سفينة حربية دمرت خلال الأعمال العدائية منذ الحرب العالمية الثانية، وأيضًا أول بارجة من الأسطول الروسي، خسرتها روسيا بعد معركة تسوشيما عام 1905، أثناء الحرب الروسية اليابانية عندما، قررت قيادة البلاد تشكيل سرب المحيط الهادئ الثاني. كان عليها أن تذهب إلى الشرق الأقصى وتساعد الجيش الروسي على هزيمة اليابان. ومع ذلك، انتهت حملة لم يسبق لها مثيل في التاريخ في أيار 1905 بهزيمة في منطقة جزيرة تسوشيما، حيث تم تحطيم أسطول روسي كبير، حيث من بين 34 سفينة روسية تم إغراق 21، وأسر 7 ونزع سلاح 6 وقتل 4545 جندي روسي وأخذ 6106 جندي أسيراً. والتي غالبًا ما تُقارن بمعركة ترافلجار عام 1805، عندما ألحق البريطانيون هزيمة ثقيلة بأسطول نابليون.
طبعاً هذه التحليلات المبالغ فيها تبدو خاطئة. نعم، في عام 1905، في مضيق تسوشيما، أغرق اليابانيون البارجة الأمير سوفوروف، البارجة في سرب المحيط الهادئ الثاني، لكن موسكفا ليست الباخرة الأولى التي تغرق في المعركة منذ ذلك الحين.
فخلال الحرب العالمية الأولى، فقدت روسيا القيصرية سفينة رئيسية أخرى. ومرة أخرى كانت السفينة الرئيسية لأسطول البحر الأسود، ومرة أخرى غرقت بعد انفجار ذخيرتها. نحن نتحدث عن الرائد في أسطول البحر الأسود، البارجة الإمبراطورة ماريا. غرقت السفينة، وهي فخر الإمبراطورية الروسية، في عام 1915 على طريق سيفاستوبول بعد انفجار قذائف في أحد الأبراج ذات العيار الثقيل.
بالمناسبة، في نفس المكان، بعد نصف قرن تقريبًا، غرقت سفينة رئيسية أخرى من أسطول البحر الأسود، وهي البارجة السوفيتية نوفوروسيسك. صحيح أن هذا حدث بالفعل في زمن السلم، في عام 1955 – حيث اصطدمت السفينة بلغم عائم.
كان الأسطول السوفيتي يفقد أيضًا رمز قوته. في عام 1941، قصفت الطائرات الألمانية البارجة “مارات” التابعة لأسطول البلطيق. نتيجة قصف جوي انفجرت ذخائرها كما في موسكفا. تمزقت السفينة إلى نصفين، وغرقت في ميناء لينينغراد. ومع ذلك، رفضت قيادة البحرية الاعتراف بفقدان أقوى سفينة في أسطول البلطيق. رسميا، بقي “مارات” في الخدمة. تم إعادة تصنيفها كبطارية عائمة، رغم أنها لم تعد قادرة على الحركة.
ما الدرس الذي يمكن تعلمه من غرق الطراد موسكفا؟
دون شك ليس مجرد طراد صاروخي عادي، هو الذي ذهب إلى قاع البحر الأسود. إلى جانب هذا يجب أن تتلاشى الأوهام التي يحملها جزء معين من المجتمع الروسي، وفي بعض عالمنا العربي حول العملية في أوكرانيا. فالأحداث في أوكرانيا ليست مجرد عملية خاصة يقوم بها الجيش الروسي في مكان بعيد، بينما غالبية الروس والعالم، هم ليسوا سوى مجرد شهود ومشاهدين لشاشات التلفزة.
إنها عملية عسكرية تؤثر على كل سكان روسيا وتؤثر على الشرق والغرب وكل الجهات جراء التداعيات السلبية لها. حيث يقوم الجيش بالعمل من أجل ضمان الأمن الروسي والمصالح الروسية كما تعتقد القيادة السياسية في البلاد. وهذا يعني أن على الروس أن يقدموا لها الدعم الكامل والشامل، وأن يجهدوا كل قوتهم لتحقيق النصر النهائي. من الواضح بالفعل أن الأمر لن يكون سهلاً. فروسيا تواجه عدواً متمرساً وماهراً. على مدى عقود، تم تدريب النازيين الجدد في كييف من قبل خبراء متمرسين، الهدف استثارة “الدب الروسي” ومحاولة إخراجه من وكره، محاربة الدولة الوحيدة القادرة على مواجهة القطب الآخر.
هذا العدو وحلفائه قادر على توجيه ضربات مؤلمة وحساسة إلى الجيش الروسي. يجب أن يقال هذا مباشرة لمقاومته. يجب إعادة النظر في مناهج حل “المشكلة الأوكرانية”. هذا يعني أن الوقت قد حان لاتخاذ الإجراءات الأكثر صرامة وحسمًا لتدمير هذا المرض العضال، حيث لا يبدو التردد الروسي إلى الآن واضحاً ويخلق الكثير من التكهنات على حد قول الكثير من الخبراء والمحللين.
———————————
*باحث في التاريخ الروسي