لبنان بين وهم السلام وحقيقة البقاء..!

خاص – “اخبار الدنيا”

 

 

بقلم العميد منذر الأيوبي*

لم تكن المقابلة التي أجرتها الصحافية هادلي غامبل مع المبعوث الأميركي الخاص توم باراك مجرّد حوار عابر أو ملءً لوقت البث، بل جاءت كمرآة عاكسة لأزمات المنطقة، وأثارت ردود فعل واسعة بين المحللين والسياسيين، لما حملته من تصريحات صادمة. ببرودة الدبلوماسي المجرّب أعلن باراك أنّ “السلام في الشرق الأوسط وهم”، مشيراً إلى انهيار أكثر من سبعة وعشرين اتفاق وقف إطلاق نار، معتبراً أن الاعتراف بدولة فلسطين لا يتجاوز الرمزية ولا يغيّر في الواقع شيئاً، مؤكداً في الوقت ذاته أنّ المصالح الأميركية ليست متطابقة مع أي دولة في المنطقة، بما فيها إسرائيل.

هذه العبارات، على قسوتها، شكّلت مادة دسمة للقراءة والتحليل. فالبعض رأى فيها تعبيراً عن إرهاق واشنطن من أزمات المنطقة ورغبتها في الانسحاب من أدوارها التقليدية، فيما اعتبرها آخرون تبسيطاً لواقع شديد التعقيد، خصوصاً في ما يتعلّق بلبنان. بعض النقاد ذهب أبعد من ذلك، فرأى أنّ باراك اعتمد خطاباً إعلامياً أكثر منه قراءة دقيقة للوقائع، ما جعل تصريحاته مثيرة للجدل بقدر ما هي مثيرة للتفكير.
في خضم هذا الجدل، برز لبنان مرّة أخرى كدولة صغيرة ذات وزن نسبي محدود، لكنها ما زالت تحتفظ بهامش صمود، ريادة وابتكار.

وإذا كانت مقولة “السلام وهم” تبدو توصيفاً لأزمات الإقليم، فهي أكثر التصاقاً بالواقع اللبناني الداخلي. فمنذ نهاية الحرب الأهلية، لم يعرف لبنان سلاماً راسخاً بقدر ما عاش هدناً طويلة الأمد، من اتفاق الطائف إلى مؤتمر الدوحة، حيث بقيت التسويات السياسية أقرب إلى وقف إطلاق نار دائم لا إلى عقد اجتماعي مستقر.

أما الاعترافات الدولية والمؤتمرات الداعمة، فتبقى في معظمها رمزية لا تُترجم إلى حلول عملية توقف الانهيار أو تعيد الثقة. فوعود المانحين لم تمنع تفكك مؤسسات الدولة ولا الانهيار الاقتصادي المزلزل. وعندما يؤكد باراك “أنّ المصالح الأميركية ليست متطابقة مع أي دولة”، يجد اللبنانيون أنفسهم أمام حقيقة صلبة: لا وصاية خارجية قادرة على إنقاذهم، ولا قوة دولية ستضع أزماتهم على كتفيها. الرسالة الأوضح هنا أن الإنقاذ لن يأتي من الخارج ما لم يبدأ من الداخل.

ثم ان لبنان في قلب هذه المعادلة ليس جزيرة معزولة. فالمصالح الأميركية تمر عبر الخليج حيث توازن الطاقة والأمن البحري، فيما ترى طهران أنّ حضورها في لبنان ورقة تفاوضية دائمة على طاولة الإقليم. وبين هذين القطبين، تتأرجح العواصم العربية بين الرغبة في دعمه والخشية من بقائه امتدادآ مباشرآ للمحور الإيراني. هذا التداخل يجعل أي مبادرة داخلية محكومة سلفاً بحدود الاصطفافات الكبرى: لا إصلاح اقتصادي يمرّ من دون غطاء خليجي، ولا استقرار أمني يترسّخ بمعزل عن تهدئة إيرانية–أميركية. هنا تكمن خطورة الرهان على الخارج، إذ يتحوّل لبنان إلى مرآة لصراعات لا يملك مفاتيحها، بدل أن يكون لاعباً فاعلاً في صياغة مصيره.

من هذا المنطلق، لم تكن تصريحات باراك مجرّد تقييم أميركي لفرص السلام، بل إعتراف او إشارة واضحة إلى سراب التعويل على الخارج مقابل ضرورة بناء القدرة الذاتية. فإذا أراد لبنان أن يتحرر من وهم السلام المستورد، عليه أن يعيد ترتيب بيته الداخلي، ويصوغ تفاهمات وطنية تقطع الارتهان لأي محور، بالتوازي مع احترام المعادلة الإقليمية دون الاستسلام لها.

في الختام، رغم الواقعية التي طبعت تصريحاته، ودون تبخيس او انبهار فأنها تبقى ناقصة. فلبنان ليس مجرد ساحة هشّة أو رهينة تناقضات خارجية. هو بلد يملك، رغم ضعفه إرادة متجددة على الانبعاث. أثبت عبر تاريخه الحديث أنّ الأزمات مهما تراكمت لا تنجح في محو صيغة العيش الفريدة لدى مكوناته. الخطأ في توصيف باراك أنه يقفل الأفق، في حين أنّ لبنان، رغم تموضعه على حافة الفالق الجيوسياسي المهتز، يفتح دائماً فجوة صغيرة في جدار المستحيل. هذه هي المفارقة: بلد لا يعرف سلاماً دائماً، لكنه لا يعرف موتاً نهائياً أيضاً.

————————-

عميد متقاعد مختص في الشؤون الأمنية والاستراتيجية

📢 اشترك بقناتنا على واتساب
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.
انضم الآن