رسالة إلى الرّئيس المنتظر..

 

بقلم : أسعد مخول*

 

ليس في حدود علمنا إن كنّا نحن المواطنين من سعى إليك، أم أنّك أنت، رئيسًا للمواطنين، من سعى إلينا. لكنّ التّرحيب لا بدّ أن يتمّ من قبلنا. ليس لأنّنا نحن أصحاب الدّيار، إنّما لأنّنا الجمهور، ومن عادة الجمهور أن يرحبّ في مثل هذه الحالة، وأن يكتب، وأن يردّد: معك إلى شاطئ الأمان. انتظرناك طويلًا. مزاياك سبقتك إلينا… إلّا أنّنا في شوق إلى أن نستبق الزّمن فنرى، أو يرى من يحيا بيننا إلى الغد، في نهاية السّتّ السّنوات، ما إذا كنّا سنصبح متلهّفين لتوديعك، وشكرك، والتّغنّي بخصالك وأعمالك وأفضالك،  تمامًا كما فعل بعض شعب تشيلي في وداع رئيسته منذ سنوات قليلة، هذا إذا كان ما سمعناه عن تلك السّيدة صحيحًا. ألا لا تعتب علينا إن شككنا في ذلك. إنّنا نخشى أن يكون كلّ شيء خيالًا في خيال.

وإن كان السّعي سعينا نحن، فإنّما هو سعي إلى من يوقف خرابنا عند حدّ. نادينا: من لنا ينقذنا، ويأتينا بخبزٍ وماء؟ فإذا بك أنت القادم. هل في أحلامك فعل ذلك، يا فخامة االرّئيس؟

حولنا، في كل اتجاه، فجوات وجذوع محطّمة وجدران رسمت فيها الشّقوق ما لا يرسمه الرّسّامون في مسوّدات لوحاتهم. حائرون لا نلوي على شيء. غاضبون هادرون مرَّة، وصامتون مرَّات، ولسان حالنا أنّ الشّكوى لغير الله مذلّة. إذًا، صمَتنا وصبرنا وانتظرنا… وأنت؟ هل أنت آتٍ لمواجهة مشكلات بلادك وبلادنا، أم لمشاركتنا في الشّكوى والنّحيب؟ هل تنوي تدوين مأثرة أو اثنتين أو ثلاثًا أو أكثر في مسيرتك، أم أنّك ستكتفي بأن “تخدم عسكريّتك” في وظيفتك الأنيقة، فتمشي الهوينى على السّجّاد الأحمر، خطوًا خطوًا، فيما تنفخ الأبواق النّحاس في الأرجاء، ويوقّع الضّاربون إيقاعاتهم فوق الطّبول؟

لقد رفضنا تلكّؤًا وقصورًا وتقصيرًا حصلت في ما سبق وسبق وسبق… واحتججنا على فسادٍ وسوء إدارة. وصرخنا في وجوه السّارقين، لا بل في وجه السّرقة الشّقيّة المجهولة، إذ لم نحدّد هؤلاء، ولا القضاءُ حدّدهم. وشكونا من فقدان الأمانة وانعدام الكفاءة، فرفعنا الصّوت في الشّوارع، وقذفنا الحجارة، وضربنا بالعصيّ… فكان الضّجيج يهدّد أسماعنا نحن. وكانت الحجارة تستقرُّ أحيانًا فوق رؤوسنا. وكانت العصيّ ترسم علاماتها فوق أكتاف السّائرين في مواكبنا… فلا قطعنا طريقًا أمام واحد من زملائك، ولا كسرنا يدَ أحدهم. ولا رسمنا جرحا في رأس أيّ منهم. لم يكن أمامنا في حقيقة الأمر، سوى أن نلتفت إلى ما ورثناه عن جدّاتنا من جرار فخَّار تذكارية عزيزة، نكسرها في نهاية الولايات، كما لم يكن أمامنا سوى أن نكتب مطوّلات في الانتقاد وتعداد المثالب .

لقد لمناهم كثيرًا، يا صاحب الفخامة، فلا أصلح اللّوم اعوجاجًا في ضمائرهم، ولا أيقظ الصّراخ نشاطًا في عروقهم، ولا علا الخجل جباههم، ولا وقفوا مرّة يعتذرون كما يفعل المتحضّرون في الدّنيا، وإن يكن من الثّابت القول: ما نفع الاعتذار في مواجهة الانهيار؟

هل أنت متابع لذلك، وحاسب له حسابًا، وعاقد العزم على تجنّبه حفاظًا على كرامتك، وحرصًا على صيت أهلك وعائلتك؟هل سيشرع معاونوك في تدبيج رسائل الشّكر والعرفان لتلك وتلك من الدّول على ما تنتظر أن تقدّمه من أرغفة وألبسة وآلات وأخشاب وعقاقير وبنادق وذخائر لشعبك ومؤسّساتك، أم أنّك سوف تبدأ للتّو، وحالًا، ومباشرةً، ومن دون تأخير ولا تلكّؤ، مسيرةً إنتاجيّة واعدة، في حدود الممكن، إنّما ليس أدنى من الممكن، تستعيد فيها شيئاً من خير بلادك، ومن عزّ بناتها ومجد أبنائها؟ هل يبقى التّراب البور بورًا، في فترة ولايتك، أم أنّه سوف يُزرع ويُغرس، كائنة ما كانت مساحته؟ وهل سوف تبقى المصانع معطّلة مقفرة مهجورة، كائناً ما كان وسع حجراتها؟ وهل أنت تارك مواطنيك يضرب واحدهم الآخر، باللّحم والحديد، في تلك الطّرقات الضّيّقة المزدحمة، الّتي يتقاطع فيها الذّهاب والإياب، ويتقاربان ويتشابهان؟ وهل سوف تخوض غمار تنظيم الأسرة في مجتمعك، بحيث تبلغ البلاد مع أجيالها اللّاحقة النسبة المقبولة من عدد السّكّان، قياسًا على المساحة الثّابتة لهذه البقعة الصّغيرة من الكرة الأرضيّة؟ وأخيرًا، هل سوف تجرح إحدى أصابعك، وتكتب بدمك على عملة بلادك وعدًا بأنك سوف تمسك بها عاطفًا مؤاسيًا متضامنًا، وتمنع رياح التّقلّبات من الاستمرار في اللّهو بها، والعبث بقيمتها، والشّماتة بكلّ ما تحمل من أرقامٍ وصورٍ ورموزٍ ودلالات؟ هل في محفظة دفاترك وأقلامك ما يشير إلى احتمال دعم تلك العملة المترنّحة المنهكة، بالسّهر والتّعب، والعمل والإنتاج، والخجل من الفشل، وامتلاك الكثير من الحياء في حضرة ما حلّ بحالها؟

قد يكون في القوانين ما يضيّق في ذات يدك، ويخفّف من حرّيّة عملك، ويحدّ من اندفاع طموحك… نعم… إنّ الصّلاحيّات الواسعة تترك أحيانًا إنجازات كبيرة في التّاريخ، إذا ما جاورتها الإرادات الأبيّة المخلصة، من هنا ما سطّره فلان وفلان من الأباطرة والقياصرة والخلفاء والملوك، من عطاءات في العلم والاقتصاد والثّقافة لكن، أليس في القوانين، في حدودها الضّيِّقة، سطور تسمح بالحركة في اتّجاه ما، وتلبّي رغبة في التّقدّم، وميلاً إلى الاصلاح  والانجاز ؟ أليس من إمكانيّة للعمل مع مختاريّة أو بلديّة أو إدارة؟ مع جنود في جيش الوطن، وأساتذة في مدارسه، وفلّاحين في حقوله، ورعاة في براريه؟ ما دامت الأمور هكذا، فلمَ الاندفاع نحو هذه الرّئاسة يا ترى؟ هل أنت قادم إلى الحرب من دون أن تطمئن إلى وحداتك وتحصي رماحك، وأن تعرف مواقع حلفائك، وأن تُشبع أحوال أعدائك درسًا وتقويمًا وافتراضًا وتخمينًا؟

أن تتمنّى وجود سلطة رئيسة واحدة في هذه البلاد، فهذا بعيد المنال يا فخامة الرّئيس، وهذا هوى مضنٍ يدمي القلوب. فعندنا طوائف، وعندنا مذاهب، وعندنا من الاتّجاهات ما يربو على الاتّجاهات الأربعة بكثير. عندنا رؤساءرؤساء لكلّ منهم موقعٌ وبابٌ مرتفع. العالم كلَّه يعرف ذلك. فمن حضر ضيفًا من العالم ذاك، لا بدّ أن يدوّن في مفكّرته برنامج زياراتهم واللّقاء بهم، والبحث في قضايا الكون معهم. والقضايا تلك كثيرة لحسن الحظ، وهي تكفي الرّؤساء جميعًا. وعندنا نوّاب. نوّاب مباركون عديدون، تزداد أعدادهم إن لزم الأمر ، وما يدعو إلى ذلك هو أنّ كتب التّشريع الّتي تشغلهم كثيرة: من العصر الفرعوني، إلى السّومري، إلى البابلي، إلى اليوناني، إلى الرّوماني، إلى المسيحي، إلى الإسلامي… إلى الوطني اللّبناني الجامع. أمّا الوزراء، فإنّ زيادتهم واجبة هي الأخرى، وضروريّة، ومرادفاتها اللّغويّة والإداريّة ميسّرة: فالاقتصاد تليه الماليّة، والتّربية تليها الرّياضة والشّباب، والثّقافة يليها التّعليم العالي، والخارجية يليها المغتربون، والموارد المائيّة تليها الكهربائية ، والدّاخليّة تليها البلديّات... ويلي تلك جميعًا وزارات احتياطيّة نسمّيها وزارات الدّولة. ف “إذا انحشر الدّق”، بالإمكان تسمية فلان أو فلان من المسؤولين وزير دولة، لكي يكتمل العقد اللّؤلؤ… بذلك، لا بدّ لكلّ واحد، إن رغب أن يكون فاعلًا منقذًا، من أن يضرب معوله في حدود البستان الّذي خصّ به، من بين بساتين هذه البلاد الطّيّبة.

الخلاصة في هذا: نحن في انهيار، أقدامنا تنزلق إلى الهاوية، ورؤوسنا مسنودة إلى بقايا الجدران المتصدّعة. نطلب الظّلّ لفرط الهجير. نبلغه في حين، ولا نجد له أثرًا في أحيان، فيدور بيننا الصّراع، وتنشأ الاتّهامات وفي ظنّ كلّ منّا أنّ رفيقه إنّما يريد أن يحرقه، وأن يسرقه، وأن يسبقه… إلى أين؟ لا بدّ إلى الأسوأ والأخطر، ولنكن مخطئين.

هذا هو الواقع، يا فخامة الرّئيس. يا ليتك تريح حنجرتك من إخبارنا به في خطاباتٍ قصيرةٍ أو طويلة.

ألا رحم اللهُ أهلك . لا تُعلِمنا بما هو معلوم. سؤالنا إليك، وأيدينا ترتفع علوًّا منذ الآن: هل تستطيع التّخفيف من انزلاق الوطن في وسط هذا الرّكام؟

———————————

* أديب لبناني