حكاية الرمّاد والنَدى…

خاص – “الدنيا نيوز”

بقلم العميد مُنذِر الأيوبي*

يبدو لبنان اليوم كمدينة أُطفئت أنوارها، لا يضيئها سوى قناديل صغيرة في الزوايا. الشوارع مثقلة بغبار الحروب الماضية، والساحات مثخنة بجراح لم تلتئم، ووعود تاهت قبل أن ترى النور. ومع ذلك، يبقى له وفيه نبض خفيّ يشبه تنفّس الأرض بعد العاصفة.. فالأوطان كالبشر، قد تترنح تحت ثقل الألم، لكنها لا تفقد حقها في الحياة ما دامت قادرة على الحلم..!

ثم يطلّ الندى كل صباح، يلامس الوجوه المتعبة ويعيد إليها بعض الطراوة..! الندى هو طفل يصرّ أن يصل إلى مدرسته رغم العتمة. هو امرأة تُشعل التنور في حيّها رغم الغلاء. هو موسيقي يقاوم ضجيج الشارع بأنغامه، وشاب يزرع زهرة في حديقة صغيرة متحديًا صخب الانهيار..! في تفاصيل كهذه، يكمن معنى الوجود، أن يجد الإنسان في البساطة طاقةً لمجابهة قسوة العالم..!

بين الرماد والندى يقف الوطن متردّدًا، لكن جذوره أعمق من كل أزمة، وذاكرة أبنائه أثقل من كل نسيان. الغبار قد يحجب الأفق، لكنه لا يمنع شمس النهار من الشروق. والندى، بخفته وهدوئه، يذكّر اللبنانيين أن الحياة ليست سلسلة انتصارات كبرى، بل مجموع لحظات صغيرة تبرهن أن الإرادة أصلب من الخراب..!

ليت متربعي الكراسي ينصتون إلى صدى الشوارع القديمة، وإلى أصوات فتيان هاجروا بعدما اكتشفوا سراب الوعود..! ليتهم يقرأون من تراث العدل في خطب الفاروق، أو من تعاليم العهد القديم حيث البِرّ أساس الحكم..!

الوطن ليس مزرعة أحزاب، ولا ساحة طوائف، ولا دفترًا لتصفية الحسابات. إنه جسدٌ حي، يبتسم حين يسود القرار الرشيد، ويدمع حين يُفترس خبز الناس وحقوقهم. ومن لا يتأمل جرح الوطن كتجربة إنسانية عميقة، سيبقى أسير أرقام وحسابات ضيقة، بينما الشعوب تعيش على المعنى قبل أن تعيش على الخبز..!

كيف لا ينهض وطن اعتاد أن يُزهر أبيضآ من شديد حالِك..؟ في صمت البزوغ، عليلٌ يخاطب أشجار الجبال الهرِمّة، إن الحياة حكاية لا تنتهي، وإن الحلم لا يُملّ منه. ومهما تراكم الغبار، يبقى للندى موعدٌ مع فجر جديد يكتبه اللبنانيون بأيديهم. فالإنسان في جوهره ليس إلا كائنًا يقاوم الفناء بالمعنى.. والبلدان مثل البشر، تُشفى حين يتذكّر أهلها أن الرماد زائل، وأن الندى أبديّ ما دام القلب يؤمن بجدوى النهوض..!

📢 اشترك بقناتنا على واتساب
تابع آخر الأخبار والتنبيهات أولًا بأول.
انضم الآن